منذ أيام؛ اﻧﻀﻤﺖ ﻣﻮﻇﻔﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺍلى ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻜﺘﺒﻬﺎ ﺑﺠﻮﺍﺭ مكتب ”ﻛﻤﺎﻝ“ بتلك الهيئة الحكومية، ﻭﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﻳﻮﻡ ﻋﻤﻞ له ﺑﻌﺪ ﺍﻷﺟﺎﺯﺓ؛ ﺟﻠﺲ منكباً على العمل بشراهة، وفجأة؛ صدح صوتاً أنثوياً جميلاً يلقي ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ عليه..
ﺭﻓﻊ ﺑﺼﺮﻩ ﻟﻴﺮﺩ ﺗﺤﻴﺘﻬﺎ؛ اﻧﺘﻔﺾ ﻭﺍقفاً ﻻ ﻳﺼﺪﻕ ﻣﺎ ﻳﺮى؛ ﺇﻧﻬﺎ ”عزيزة“ بشحمها ولحمها، ﺑﻨﻔﺲ ﻣﻼﻣﺤﻬﺎ، ﻧﻔﺲ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ، نفس رقة صوتها!.
ذُهل ﻭتعجب ﻛﺜﻴﺮاً، ﻭﺣﺪﺙ ذلك الاﻧﺠﺬﺍﺏ الغريب ﺑﻴﻦ الاﺛﻨﻴﻦ من أول نظرة، وهام بها شارداً يتخيل خطبته عليها ، وزواجه بها
ثم أفاق وذهب ليتعرف إليها وعلى وجهه ابتسامة أمل...
الموت...
في يوم ما، منذ خمسة أشهر؛ ﺃﻋﻠﻦ ”كمال“ خطبته من فتاة من ﺑﻠﺪﺗﻪ بالجنوب..
لا ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺰﻣﻼﺀ بالعمل ﻳﻌﺮﻑ ﻋﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻛﺜﻴﺮاً، ﻭﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﺷﺨﺺ غير اجتماعي بالمرة ، ولا يحب الثرثرة ، والخوض في الأحاديث التي لا تجدي نفعاً..
ﺧﻄﻴﺒﺘﻪ ﺗﺪﻋﻰ ”ﻋﺰﻳﺰﺓ“ وﻛﺎﻧﺖ ﺟﺎﺭﺗﻪ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻓﺘﺎﺓ ﺭﺍﺋﻌﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ؛ عيناها سوداوتان واسعتان كحيلتان، وخداها أسيلان، كانت الأجمل بالقرية. ﻛﺎﻥ ﻛﻤﺎﻝ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺎ ﻣﻌﺰﺓ ﻭحباً ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺣﺪﻭﺩ ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻫﻲ ﺃيضاً ﺗﺒﺎﺩﻟﻪ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ، وﻛﺎﻧﺎ الاﺛﻨﻴﻦ ﻗﺼﺔ العشق ﺍﻷﺷﻬﺮ ﺑﺎﻟﻘﺮﻳﺔ..
اﻷﻃﻔﺎﻝ كانوا ﻳﻌﺮﻓﻮﻥ ﺃﻥ ﻛﻤﺎﻝ ﻳﺤﺐ ﻋﺰﻳﺰﺓ، وعزيزة تحب كمال، بيد أن كمال كان كتوماً، ﻭﻻ ﻳﻔﺸﻲ ﺃﺳﺮﺍﺭﻩ ﻷﺣﺪ ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺤﺐ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺃﻓﺸﻰ السر في هذه المرة. فلا ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻜﺎناً ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﺇﻻ ﻭﻟﻪ ﺫﻛﺮﻯ ﻟﻬﻤﺎ، ﻭﻻ يوجد جذع شجرة ﺇﻻ ﻭﺣﻔﺮﺍ عليه قلب يخترقه سهم الحب ﻭبطرفيه حرفيهما..
***
كانا جالسان بجوار بعضهما البعض على ربوة خضراء يشاهدان غروب الشمس خلف النخيل والحقول، كانا متلاصقين؛ عزيزة في جلبابها المزركش بالورود، وطرحتها الموشاة بالترتر، وكمال بجلبابه الفضفاض، وشاله المصبوغ، مسك يديها، قال:
- ما عدتُ أهتم لشروق الشمس مذ أن أشرقتِ على حياتي!.
ابتسمت بملء شدقيها، قالت:
- أنا لم أولد حين وضعتني أمي ، ولكني ولدتُ حينما وضعتني بحضنك الدافيء.
طوقها، وقبل رأسها، وغربتْ الشمس..
***
ﺗﻤﺖ ﺍﻟﺨﻄﺒﺔ ﻭفَرِحَ ﻣﻦ فَرِح وحَزِنَ من حزن؛ فقد سبق وتقدم لخطبتها الكثير من شباب القرية؛ لكنها رفضتهم جميعاً من أجل معشوقها؛ كمال.
لبسا ﺧﺎﺗما ﺍﻟﺨﻄﻮﺑﺔ؛ ﺟﻠﺴﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ البعض بشرفة دار العروسة الواسعة المطلة على حقول القمح الخضراء؛ متقابلان يتأملان بعضهما البعض في صمت؛ كانت عزيزة ترتدى فستاناً أحمراً، وشعرها الناعم منسدل على كتفيها.
كان كمال مرتدياً بدلةً سوداءً، وغير بعيد في باحة الدار؛ تردد الفتيات الأهازيج، والضحكات، كسرت عزيزة الصمت قائلة :
- سأنهض ﻷﺣﻀﺮ ﻟﻚ شيئاً ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺬﻛﺮﻧﻲ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺳﻔﺮﻙ... قاطعها ﻛﻤﺎﻝ:
- ﻭﻣﺘﻰ نسيتكِ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﺬﻛﺮكِ !؟.
وصمتا الاثنين فينة ثم أردف كمال قائلاً :
- ﺃنت الروح لجسدي، ﻭفراقكِ ﺍﻟﻤﻮﺕ... قاطعته ﻋﺰﻳﺰﺓ:
- ليجعل ﺍﻟﻠﻪ ﻳﻮﻣﻲ ﻗﺒﻞ ﻳﻮﻣﻚ حبيبي؟.
- ﺳﻼمتكِ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺕ ، ﺇﻥ ﺷﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﻨﻌﻴﺶ ﻭﻧﺘﺰﻭﺝ ﻭﻧﻨﺠﺐ ﺃﻃﻔﺎﻻ ﻛﺜﻴﺮين ، فدعكِ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻴﺮﺓ ، وقولي لي ، ماذا كنتِ ﺳﺘﺤﻀﺮﻳﻦ ﻟﻲ ؟ ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻨﺪﻱ ﺃﺟﻤﻞ من وجودكِ معي!.
وقفت ﻋﺰﻳﺰﺓ؛ دلفت داخل الدار؛ ﺃﺣﻀﺮﺕ ﺻﻨﺪﻭقاً خشبياً ﺻﻐﻴﺮاً مطعم بزخارف مذهبة، ثم جلست، ومدته إليه، قالت:
- ﻻ ﺗﻔﺘﺤﻪ ﻫﻨﺎ ﺑﻞ ﺑﻌﺪ وصولك إلى القاهرة ؟.
ابتسم، تناوله منها، وضعه على حجره، أضافت:
- ﺃﻏﺎﺭ ﻋﻠﻴﻚ ﻣﻦ ﻓﺘﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ ، ﻓﺈﻧﻬﻦ ﻳﻀﻌﻦ ﺯﻳﻨﺘﻬﻦ ﻭﻳﺮﺗﺪﻳﻦ ﺍﻟﻤﻼﺑﺲ ﺍﻟﺨﻠﻴﻌﺔ ، ﺃﺧﺸﻰ ﺃﻥ ﻳﻔﺘﻨﻨﻚ ﺑﺠﻤﺎﻟﻬﻦ ﻭﺣﺮﻛﺎﺗﻬﻦ... ﻗﺎﻃﻌﻬﺎ:
- ﻻ ﺃﺳﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺃﻧﻈﺮ ﻷﻯ ﻓﺘﺎﺓ سواكِ، ﻭﺇﻥ ﻓﻌﻠﺘﻬﺎ ﻭﻧﻈﺮﺕ ﻹﺣﺪﺍﻫﻦ ﺭﺃﻳﺖ ﺻﻮﺭﺗكِ ، لأنكِ عيني التي أرى بها-ثم مسك يديها-صدقينيﻟﻢ ﻭﻟﻦ ﺃﺷﻌﺮ ﺑﺎﻷﻣﺎﻥ ﻭﺍﻟﺤﺐ ﺇﻻ ﺑﻴﻦ ﺃﺣﻀﺎﻧﻚ، لذا دعكِ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺰﺍﺡ ﻳﺎ ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺒﻲ ، ﻭﺩﻋﻴﻨﺎ ﻧﺴﺘﺮﻕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﺤﻈﺎﺕ الحلوة ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﺮ؟.
قالت عزيزة بصوت متهدج :
- ﺃﺣﻴﺎناً أشعرُ ﺑﺨﻮﻑ ﺷﺪﻳﺪ ﻭﺃﺷﻌﺮ ﺃﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﺮﺣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺤﻴﺎﻫﺎ ﻟﻦ ﺗﻄﻮﻝ ، ﻭﻛﺜﺮﻣﺎ ﺭﺃﻳﺘﻚ ﺑﺄﺣﻼﻣﻲ ﻭﺃﻧﺖ ﺣﺰﻳﻦ ﺗﺒﻜﻲ ﻭﻻ ﺃﺩﺭﻱ ﻟﻤﺎﺫﺍ !.
نزلت دموع عينيها الكحيلتين على خديها الميسين في صمت ، فكفكف كمال دمعاتها بيده، فقبلتها، قالت:
- ﺃﺧﺸﻰ ﺃﻥ يُكتَب ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ فأموت، أنا أﺗﻌﺬﺏ ﻭأتلوى ﻣﻦ ﻧﺎﺭ الاشتياق ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺴﺎﻓﺮ ، فما بالك بالفراق ؟ ﻋﺪﻧﻲ ﻳﺎ ﻛﻤﺎﻝ ﺃﻥ ﻻ يفرقنا سوى الموت؟.
- ﺃﻋﺪكِ!.
قالت ودموعها تنهمر :
- ﻭأﻋﺪﻙ أني سأحبك ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻲ!.
***
ﻭﺻﻞ ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ؛ عاد لشقته، جلس بالشرفة ، ﻓﺘﺢ ﺍﻟﺼﻨﺪﻭﻕ ﻓﺈﺫﺍ ﺑﺪﺍﺧﻠﻪ ”اﻟﺪﻣﻴﺔ القماشية ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ“ التي ﺗﺤﺘﻀﻦ قلباً ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻤﺎﺵ ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻗﺪ غزلتها ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻣﻨﺬ ﺃﻥ ﻛﺎﻧﺎ ﻃﻔﻠﻴﻦ ﻭﻛﺎﻧﺎ ﻳﻠﻌﺒﺎﻥ ﺑﻬﺎ ﺳﻮياً؛ أُحيك ﻋﻠﻴﻬﺎ مؤخراً ﻋﺒﺎﺭﺓ «سأﺣﺒﻚ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻲ»
اﺭﺗﺠﻒ ﻛﻤﺎﻝ ﻭتساءل:
»ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﻜﺮﺭ كلمة "ﺍﻟﻤﻮﺕ" ﺃﻧﻪ لأمر ﻣﻘﻠﻖ!.»
***
بعد مرور أسابيع؛ اﺗﺼﻞ ﺃﺣﺪ ﺃﻫﻞ القرية ﺑﻜﻤﺎﻝ، قال:
- ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻓﻲ ﺧﻄﺮ ﻻﺑﺪ ﺃﻥ تحضر ﺣﺎﻻ لتساعدها؟!.
لمَّا قالها المتصل؛ انقبض قلبه وتلاحمت نبضاته، ﻟﻢ يستطع الاﻧﺘﻈﺎﺭ ﺃﻭ الاﺳﺘﻔﺴﺎﺭ ﻭاﻧﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﺬﻋﺮ ﻭﺍﻟﺨﻮﻑ ﻭﺍﻟﺤﻴﺮﺓ ﻭﺍﻟﻘﻠﻖ ..
بدل ملابسه، ذهب إلى موقف السيارات، اﺳﺘﻘﻞ ﺳﻴﺎﺭﺓ ﺧﺎﺻﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﻞ ﺑﺄﺳﺮﻉ ﻭﻗﺖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ حتى ﻳﻌﺮﻑ ﻣﺎﺫﺍ ﺟﺮﻯ ﻫﻨﺎك؟ ﻭليطمئن ﻋﻠﻰ ﺣﺒﻴﺒﺘﻪ..
***
ﻭﺻﻞ كمال إلى أطراف القرية ، زاد انقباض ﻗﻠﺒﻪ ﺃﻛﺜﺮ فأكثر؛ فوجيء من بعيد بأن ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﺠﻤﻌﺖ ﺃﻣﺎﻡ ﻣﻨﺰﻝ عزيزة!
ركض كالمجنون يصرخ بالناس :
- ماذا يحدث ؟!..
ﻭﻟﻜﻦ ﺃﺣﺪاً ﻟﻢ ﻳﺠﺐ! بدأ يركض ﺑﻴﻦ ﺻﻔﻮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻫﻮ يكرر صرخاته :
- ﻣﺎﺫﺍ ﺣﺪﺙ؟... ﺃﻳﻦ ﻋﺰﻳﺰﺓ؟.
ﺗﻴﻘﻦ لحظتها ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻟﻚ ﻣﻜﺮﻭﻩ ما يحدث لها!.
ﻓﺒﺪﺃﺕ ﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ﺗﻨﻬﻤﺮ ﻭﺩﻗﺎﺕ ﺍﻟﻘﻠﺐ تكاد تنفذ من صدره، ﻇﻞ ﻳﺼﺮﺥ ﻭﻳﺼﺮﺥ ﻭﻟﻢ ﻳﻌﺮﻩ ﺃﺣﺪ اﻫﺘﻤﺎماً، ﺇﻻ مصمصة الشفاة ، ﺩﻭﻥ أية ﺇﺟﺎبة، ﻓﺰﺍﺩﺕ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻐﻤﻮﺽ ﺍﻟﻤﺤﻴﻄﺔ ﺑﻨﻔﺴﻴﺘﻪ ، فازﺩﺍﺩﺕ ﺳﻮءً فسوءً!.
ﻭﺻﻞ ﺃخيراً ﺃﻣﺎﻡ ﺑﺎﺏ دارها ، ومن حوله حلقات وصفوف من الرجال والنساء، ووﺟﺪ ﺍﻟﻨﻴﺎﺡ ﻭﺍﻟﻌﻮﻳﻞ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ الدار ..
ﻭﺟﺪ ”أم ﻋﺰﻳﺰﺓ“ ﺟﺎﻟﺴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ ، ﻭﺗﻬﻴﻞ ﻓﻮﻕ ﺭﺃﺳﻬﺎ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻭﺗﻨﻮﺡ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻔﺰعة، اِﻧﻬﺎﺭ أمامها ”ﻛﻤﺎﻝ“ نزل على ركبتيه يتأملها كطفل نزل تواً إلى الوجود..
نظرت ﺇﻟﻴﻪ الأم ﻭﺗﻮﻗﻔﺖ ﻟﺜﻮﺍﻥ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻴﺎﺡ ﻭﺍﻟﻌﻮﻳﻞ بيد أن يديها قابضتان على التراب، ﻧﻈﺮﺕ لعينيه فوجدته ﻏﺎﺭقاً ﺑﺪﻣﻮﻋﻪ، أﻣﺴﻚ ﻳﺪﻳﻬﺎ ﻭسكب التراب من قبضتيها ثم ﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ ﺑﺼﻮﺕ مبحوح :
- ﻣﺎﺫﺍ ﻳﺤﺪﺙ... ﺃﻳﻦ ﻋﺰﻳﺰﺓ ؟
ﺼﺮﺧﺖ ﺑﻪ :
- ﻋﺰﻳﺰﺓ ﺃﻟﺤﻘﺖ ﺑﻨﺎ ﺍﻟﻌﺎﺭ، وتركتهم يغتصبونها! ﻭﺃﺧﺬﻫﺎ ﺃبوﻫﺎ ﺇﻟﻰ بطن ﺍﻟﺠﺒﻞ ﻟﻴﻐﺴﻞ ﻋﺎﺭﻩ ﻭﻳﺪﻓﻨﻬﺎ..
ﺃﺷﺎﺭﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻟﻘﺮﻳﺐ، ﻟﻢ ﻳﺼﺪﻕ كمال ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻭﺗﻮﻗﻒ ﻋﻘﻠﻪ ﻭﻗﻠﺒﻪ ﻟﺜﻮﺍﻥ، ﺛﻢ ﻋﺎﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ..
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﺧﻴﺎﺭ ﺇﻻ ﺃﻣﻞ ﻣﻨﻌﺪﻡ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻠﺤﺎﻕ ﺑﻬﻢ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ يمسسها ﺃﺫﻯ؛ ركض ﻛﻤﺎﻝ صوب ﺍﻟﺠﺒﻞ ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺼﻔﻮﻑ ﻋﻦ ﻳﻤﻴﻨﻪ ﻭﻋﻦ ﺷﻤﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺘﻔﺮﺟﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ كثيرة..
ﻛﻠﻤﺎ ﺟﺮﻯ ﺃﻛﺜﺮ ﻭﻗﻊ ﻋﻠﻰ ﺳﻤﻌﻪ ﻋﺒﺎﺭﺍﺕ ﺗﻘﺬﻑ ﻣﻤﻦ اﺻﻄﻔﻮﺍ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ، فيقول ﺃﺣﺪﻫﻢ :
- ﺇﻧﻬﺎ ﻋﺎﻫﺮﺓ ﻭﺗﺴﺘﺤﻖ!.
ويقول آخر :
- ﺗﻌﻮﺩﺕ ﻋﻠﻰ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺮذﻳﻠﺔ ﻭﺑﺪﺃﺗﻬﺎ ﻣﻊ ﻓﺘﻰ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ!.
ويقول غيرهم :
- لا توجد فتاة يمكن اغتصابها رغماً عنها أبداً!.
ﻭلكنه لم يكترث فخوفه ﻭﻟﻬﻔﺘﻪ وشغله الشاغل اللحاق بعزيزة ليس إلا!.
***
ﻭﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﺒﻞ ، وبعد أن صعده ، سمع ﺻﺮﺍﺧﻬﺎ ﻭﺑﻜﺎﺅﻫﺎ ﻭاﺳﺘﻐﺎﺛﺎتها، ركض ﺻﻮﺏ ﺍﻟﺼﻮﺕ ، ﻓﻮﺟﺪ ﺭﺟﺎﻝ ﻣﻦ ﻋﺎﺋﻠﺘﻬﺎ مسلحين بالبنادق ، ﻭﻣﻨﻌﺎﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﻮﺭ بالقوة!.
نظر إلى بطن ﺍﻟﺠﺒﻞ ﻓﻮﺟﺪ ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻣﻜﺒﻠﺔ بالحبال ، ﻭﺃبوﻫﺎ ﻭﺍقف ﺃﻣﺎﻣﻬﺎ يحدجها وبيده بندﻗﻴﺘﻪ، لمحته ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻓﺼﺮﺧﺖ :
- اﻧﺠﺪﻧﻲ ﻳﺎ ﻛﻤﺎﻝ؟ ﻻ ﺗﺘﺨﻠﻰ ﻋﻨﻲ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ؟ أنا بريئة لاتصدقهم؟ أنت تعرف بأني مخلصة لك لوحدك؟!.
ﻓﺼﺮﺥ ﻛﻤﺎﻝ :
- ﻻ ﺗﻘﺘﻠﻬﺎ ﺃﺭﺟﻮﻙ ... اﻧﺘﻈﺮ ؟.
ﺛﻢ انسل ﻣﻦ بين ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ المسلحين ، ونزل ﻧﺎﺣﻴﺘﻬﺎ، ﺃﺷﻬﺮ ﺃبوﻫﺎ ﺳﻼﺣﻪ نحوها ، ﺛﻢ ﺃﻃﻠﻖ ﻭﺍﺑﻼ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺻﺎﺹ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒ ﺍﻟﺮﻗﻴﻖ..
وﻗﻌﺖ عزيزة ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ ، ﻟﺘﻠﻔﻆ ﺃﻧﻔﺎﺳﻬﺎ ﺍﻷﺧﻴﺮة، وهرب الأب ﺑﻌﻴﺪاً ﻋﻨﻬﺎ ، ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺳﻤﻊ ﺻﻮﺕ ﺳﺎﺭﻳﻨﺔ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ..
ﻟﻢ ﻳﺼﺪﻕ ﻛﻤﺎﻝ ﻣﺎيحدث ﻟﺤﺒﻴﺒﺘﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻴﻨﻴﻪ ، ﻭﻻ ﻳﻔﻬﻢ ﺳﺒﺐ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ، ﻭﺟﺮﻯ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻮﺟﺪﻫﺎ ﻏﺎﺭﻗﺔ ﻓﻲ ﺑﺤﺮ ﺩﻣﺎﺋﻬﺎ .. ذُﻫﻞ عقله ، ورفض مايحدث؛ ﻇﻞ ﻳﺒﻜﻲ ﻭﻳﺒﻜﻲ ، ﻣﺴﻚ ﺑﻴﺪﻫﺎ يقبلها بحرارة ، ﻭﻫﻮ ﻏﺎﺭﻕ ﻓﻲ ﺑﺤﺮ ﺩﻣﻮﻋﻪ ، ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ بصوت متهدج من شدة نحيبه :
- ﻟﻘﺪ ﻋﺪتُ ﺇليكِ ... ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺃنتِ راحلة؟ لا ﺗﺘﺮكيني ... ﺃﺭﺟﻮكِ ﻻ ﺗﺘﺮكيني ...فلن ﺃﺳﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﺑﺪﻭنكِ ﻫﻴﺎ انهضي؟ اعطني فرصة أخرى...فرصة واحدة أرجوكِ أريد أن أُحبك، أتزوجكُ، أريد إنجاب أطفال منكِ، يشبهونك ولا يشبهونني؟.
ﻓﻜﺎﻧﺖ جاحظة العينين كأنها تتأمله ، وﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻭهو قابض على ﻳﺪيها الباردتين ..
لقد ﻛﺎﻥ هو ﺁﺧﺮ ﻣﺎ ﺭﺃﺗﻪ ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ بهذه الدنيا القصيرة الأمد، ﻛﺎﻥ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﻪ ﻟﻬﺎ ﻛﻞ ﺷﺊ ﺟﻤﻴﻞ ، ﻭﺍﻟﺤﻠﻢ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ!.
ﺻﺮﺥ ﻛﻤﺎﻝ ﺛﻢ ﻓﻘﺪ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﻭﺳﻂ ﺑﺮﻛﺔ ﺩﻣﺎﺋﻬﺎ . ﺃﺗﺖ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ للمعاينة، ﻭنُقِل ﻛﻤﺎﻝ ﺇلى ﺍلمستشفى..
***
ﻇﻞ ﻓﻲ ﻏﻴﺒﻮﺑﺔ ﺗﺎﻣﺔ ﺑﻀﻌﺔ ﺃﻳﺎﻡ ..
ﻗﺎﻝ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ : «إﻥ ﻛﻤﺎﻝ ﻟﻦ ﻳﻨﺠﻮﺍ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻐﻴﺒﻮﺑﺔ ﺍﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﺟﻠﻄﺔ ﺩﻣﺎﻏﻴﺔ ﺣﺎﺩﺓ نتيجة صدمته العاطفية»
ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﺣﺴﺎﺑﺎﺕ ﺃﺧﺮى!.
وﻓﺠﺄﺓ؛ ﻋﺎﺩﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺇلى ﻛﻤﺎﻝ فوق سرير المستشفى ، ﻭﺃﻓﺎﻕ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﻴﺒﻮﺑﺔ ، ﻭﻋﺎﺩ طبيعياً، وقتئذ؛ اﻧﺪﻫﺶ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ أيما اندهاش!.
ﻭﺑﻌﺪ ﺍﻟﻔﺤﻮﺻﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻴﻞ ﻭﺍﻟﺠﻠﺴﺎﺕ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭﻳﺔ ﻣﻊ ﻛﻤﺎﻝ ، اﻛﺘﺸﻒ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ: «ﺃﻧﻪ ﺃﺻﻴﺐ ﺑﻔﻘﺪﺍﻥ ذاكرة ﺟﺰﺋﻲ»
فهو ﻻ ﻳﺘﺬﻛﺮ شيئاً ﻋمَّا ﺣﺪﺙ ﻟﻌﺰﻳﺰﺓ، ﻭﻛﺎﻥ ﺁﺧﺮ ﻣﺎ ﻳﺘﺬﻛﺮﻩ ﻫﻮ قدومه للقرية بلا سبب يتذكره. لم يقبل عقله الحادثة ، فرفض تخزينها بذاكرته، وحدث الخلل والفقدان..
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄل أهلهﻋﻦ ﺳﺒﺐ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﺑﺎلمستشفى ، ﻓﺄﺟﺎﺑﻮﻩ :
- ﺣﺎﺩﺙ ﺑﺴﻴﻂ ..
ﻓﺴﺄﻝ ﻋﻦ ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻓﺄﺟﺎﺑﻮﻩ :
- ﺫﻫﺒﺖ ﻣﻊ ﻋﺎﺋﻠﺘﻬﺎ ﻟﺰﻳﺎﺭﺓ ﺃﻗﺎﺭﺏ ﻷﻣﻬﺎ بإﺣﺪﻱ ﻣﺤﺎﻓﻈﺎﺕ ﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﻭﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﻋﺎﺋﻠﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﺮﻳﺔ!.
***
قفل عائداً إلى ﻟﻘﺎﻫﺮﺓ، ﻭﻋﺎﺩ ﺇلى ﻋﻤﻠﻪ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺃﺻﺒﺢ ﻣﺸﻐﻮﻻ على ﻋﺰﻳﺰة، ﻭﻣﺘﻲ ﺳﺘﻌﻮﺩ،
وﺃﺻﺒﺤﺖ ﺗﺮﺍﻭﺩﻩ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺣﻼﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺮى ﺑﻬﺎ ﺇﻻ ﺍﻟﻈﻼﻡ ﻭيسمع تلك الضحكات الآتية من ﻣﺎضٍ ﺳﺤﻴﻖ ، وﺗﺸﺒﻪ ﺿﺤﻜﺎﺕ ﻋﺰﻳﺰﺓ بل هي ضحكاتها!.
ساﻭﺭﺗﻪ ﺷﻜﻮﻙ ﻛﺜﻴﺮة ﻓﺴﺎﻓﺮ ﺍلى ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ غير مرة ، ليستقصِ أية أخباراً عن ﻋﺰﻳﺰﺓ ﺃﻭ أي ﺃﺣﺪ ﻣﻦ أُﺳﺮﺗﻬﺎ ..
ولكن كل ما استطاع أن يعرفه أنهم ﻟﻦ ﻳﻌﻮﺩﻭﺍ ﺇلى ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﺍﻵﻥ . ﻭاﺣﺘﻤﺎﻝ ﻛﺒﻴﺮ ﺃﻥ ﻟﻦ ﻳﻌﻮﺩﻭﺍ ﺃﺑﺪاً! ﻓﻘﺪ ﺑﺎﻋﻮﺍ ﺃﺭضهم ﻭﻣﻨﺰﻟﻬﻢ ﻭﺳﻴﻌﻴﺸﻮﻥ ﻓﻲ ﺇﺣﺪى ﻣﺤﺎﻓﻈﺎﺕ بحري!.
لقد أُبرم ﺇتفاق بين معظم ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ على طي السر وﻛﺘﻤﺎﻥ ﻣﺎﺣﺪﺙ ﻣﺮﺍﻋﺎﺓ ﻟﻤﺮضه..
تَفَقَد كمال ﺫﻛﺮﻳﺎﺗﻪ ﺑﺎﻟﻘﺮﻳﺔ حزيناً، ﺛﻢ ﻋﺎﺩ الى ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ حانقاً غاضباً مكسوراً..
***
ﻟﻢ ﻳﺼﺪﻕ ﻛﻤﺎﻝ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ﻭﺗﺪﻫﻮﺭﺕ ﺣﺎﻟﺘﻪ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ، ﻭﻟﻢ ﻳﺘﺨﻴﻞ ﺃﻥ ﻋﺰﻳﺰﺓ ﺗﺨﻠﺖ ﻋﻨﻪ ﺑﺴﻬﻮﻟﻪ .. ﻭﻣﺎﺯﺍﻝ ﻋﻨﺪﻩ ﺃﻣﻞ ﻛﺒﻴﺮ ﺃﻥ ﺗﻌﻮﺩ ﻷﺣﻀﺎﻧﻪ ﺛﺎﻧﻴﺔ ، ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺮﻑ ﻣﺪى ﺣﺒﻬﺎ ﻟﻪ، وظن أن ﻣﺎ ﻳﺤﺪﺙ له ﻣﺰحةً ﻭﺳﺘﺄتِ ﻳﻮماً ما وﺗﻄﺮﻕ ﺃﺑﻮﺍﺑﻪ ﺑﻜﻞ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﻭالحنين ..
كان كمال يجلس بشرفة الشقة بالقاهرة، ينفخ دخانه، فدق الهاتف، نهض سريعاً، أجاب:
- مرحباً؟.
- أستاذ كمال أنصحك أن تنسى عزيزة؟.
- لماذا تقول لي هذا الكلام ومن أنت أصلاً؟
- لأنني رأيتها؛ لقد تزوجت برجل قريب لأمها من بحري، لقد كان حبها لك تعلق لا أكثر ، وما إن رأت ذلك الرجل وعشقته حتى تعلقت به أكثر منك وتزوجته!..
- أرجوك... ان كنت تعرف عنوانها فاعطنيه؟.
- من الأفضل أن تنساها مثلما نسيتك هي؟.
- مستحيل... من أنت بالله عليك؟ من أنت؟.
- أنا فاعل خير!.
- أين هي أرجو...
ثم انتهت المكالمة..
***
اﺳﺘﺄﺫﻥ ﻟﻪ ﺃﺻﺪﻗﺎؤه ﻓﻲ أﺟﺎﺯﺓ ﻟﻌﺸﺮة ﺃﻳﺎﻡ؛ حزم ﺃﻣﺘﻌﺘﻪ ﻭﺫﻫﺐ ﺇلى ﺇﺣﺪى ﺍﻟﻤﺪﻥ ﺍﻟﺴﺎحلية لعله ﻳﺠﺪ ﺍﻟﺘﺤﺴﻦ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎﺀ هناك!.
ﻭﻟﻜﻦ ﺭﺍﻭﺩﺗﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺣﻼﻡ غير مرة، وذات الضحكان غير مرة، جلس على الشاطيء ، ووضع أمامه على الطاولة الصندوق الخشبي الصغير، تأمله: « قديما تمنيتُ لو أنني شخص خارق ، وبمقدوري أن أغزوا العالم لإعادة كل حبيب لحبيبه ، ولما هجرني الحبيب وجدتُ نفسي عاجزاً عن استعادة حتى طيفه ، فأيقنتُ عندها أنني بشر لا أستطيع تغيير مجريات الأقدار»
قالها في نفسه متألماً، نظر إلى البحر شارداً، تمتم:
- سأرضى بنصيبي وقسمتي ، وإن كانت قد تزوجتْ حقاً، فأتمنى لها السعادة من كل قلبي ، أما أنا فمن الآن سأبحث عن سعادتي أيضاً، رغم أني متأكد أنها قد أخذتها معها إلى الأبد!.
فتح ﺍﻟﺼﻨﺪﻭﻕ، أخرج الدمية، وضعها أمامه، قال:
- ﺃنتِ ﻛﺎﺫﺑﺔ ﻟﻘﺪ تخليتِ ﻋﻨﻲ ﻭاﺧﺘﺮتِ-ثم سالت دمعاته- غيري ، في وقت أنا في أمس الحاجة لكِ فيه ، فالآن ما عدتُ أحتاج لغروب الشمس بعد أن غربتِ عن حياتي ، سأبحثُ عن شمس جديدة تشعرني بالدفء ولا تأفل مثلكِ أبداً..
ثم نظر إلى الدمية؛ رأى وجه عزيزة ينأى عن النظر إليه، قال:
- لا تتكبرِ؟ أنا كالشمس التى ترسل للأرض أشعتها، فتبدأ صيرورة انقشاع الظلام وبزوغ النهار، وأنتِ كالقمر الذي يعقبني ويطل على الأرض في غيابي، وبنور استمددته مني لتبدأ صيرورة الليل ذو النور الخافت، ليل السحر ، ليل الشاعرية ، ليل الحب... فإن كنتِ قمراً فأنا من أعاركِ نوره الذي جعلكِ قمراً يتغنى به... لا تتكبرِ؟.
ثم بدا عليه بعض إصرار مع كثير من الحزن، قال: - ﻭﺩﺍعاً ﻳﺎ دميتي سأضعكِ بين الذكريات الأليمة ، لأبدأ في صناعة ذكريات جديدة؟.
ثم أدخل الدمية في الصندوق، وأغلقه ﺑﻘﻔﻞ ﺛﻢ ﻭﺿﻌﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﺒﺔ، ﻭاﻧﺘﻬﺖ ﺃﺟﺎﺯﺗﻪ ﻭﻋﺎﺩ ﺇلى ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ..
***
منذ أيام؛ اﻧﻀﻤﺖ ﻣﻮﻇﻔﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺍلى ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻜﺘﺒﻬﺎ ﺑﺠﻮﺍﺭ مكتب ”ﻛﻤﺎﻝ“ ﻭﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﻳﻮﻡ ﻋﻤﻞ له ﺑﻌﺪ ﺍﻷﺟﺎﺯﺓ؛ ﺟﻠﺲ منكباً على العمل بشراهة، وفجأة؛ صدح صوتاً أنثوياً جميلاً يلقي ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ عليه..
ﺭﻓﻊ ﺑﺼﺮﻩ ﻟﻴﺮﺩ ﺗﺤﻴﺘﻬﺎ؛ اﻧﺘﻔﺾ ﻭﺍقفاً ﻻ ﻳﺼﺪﻕ ﻣﺎ ﻳﺮى؛ ﺇﻧﻬﺎ ”عزيزة“ بشحمها ولحمها، ﺑﻨﻔﺲ ﻣﻼﻣﺤﻬﺎ، ﻧﻔﺲ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ، نفس رقة صوتها!.
ذُهل ﻭتعجب ﻛﺜﻴﺮاً، ﻭﺣﺪﺙ ذلك الاﻧﺠﺬﺍﺏ الغريب ﺑﻴﻦ الاﺛﻨﻴﻦ من أول نظرة، وهام بها شارداً يتخيل خطبته عليها ، وزواجه بها
ثم أفاق وذهب ليتعارف عليها وعلى وجهه ابتسامة أمل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق