توقفتْ الحافلة بجانب الرصيف الفاصل بين حارتي مرور السيارات، ولفظت شابين من بابها؛ وقعا على الرصيف بين العمال، وأُلقيَت خلفهم حقائب عُدتهم من نفس الباب، ثم انطلقت الحافلة مرة أخرى في طريقها تجاه الحي السابع بمدينة نصر.
بدا الشابان في حلة من ملابس بالية، وشعر مغبر مشعث، وأحذية متآكلة ولحى متروكة. نهضا الشابان ونظرا إلى الرصيف ثم نظرا إلى بعضهما البعض، قال الأول:
- الحمد لله يا ”عادل“ لقد أتينا قبل الازدحام !.
نظر إليه عادل مصدوماً وساخراً:
- فعلاً يا ”سعيد“ لقد وصلنا قبل ميعاد كل يوم، واليوم لا يوجد بالرصيف سوى ألف عامل فقط !.
ضحك سعيد، قال:
- قليلون جداً أليس كذلك ؟.
- ويحك ياسعيد؛ لنا أربعة أيام نتنقل من رصيف إلى رصيف ، ولا توجد فرصة عمل ولو "يومية" واحدة أو حتى "مرمة" لي أو لك، لقد مللتُ ياسعيد! لقد كادت النقدية التي معنا أن تنتهي ، ولم يعد معنا سوى خمسة جنيهات، من أين سنأكل وكيف سنصرف وكيف سنتصرف؟.
جلسا الاثنين بجانب بعضهما وافترشا عدتهما أمامهما، وقد خيم البؤس والحزن على وجهيهما، قال سعيد:
- أنا أيضاً لم إرسل لأمي هذا الإسبوع قرشاً واحداً... أخشى أن تجوع وتمد يدها للجيران ، أو تمرض فلا تجد مالاً لتذهب لطبيب أو تحضر علاجاً!.
- وأنا كما تعرف لم أشترِ ملابس جديدة منذ عاماً مضى حتى اشتكت مني تلك الملابس الرخيصة المستعملة التي نشتريها معاً من سوق المستعمل!.
تذكر سعيد شيئاً، قال:
- ماذا فعلت مع صاحب "الڤلة" في اليومية إياها؟.
- اتفقتُ معه أن أنجز له عمله بخمسة وثمانين جنيها، وآخر النهار أعطاني ثمانين جنيها فقط!.
- اعذره ياصديقي لربما كان محتاج إلى الخمسة جنيهات؟.
- أنا عذرته بالفعل ياصديقي لمَّا رأيت سيارته "الجيب" ليست نظيفة، فشعرتُ بأنها لم تُغسل منذ أيام، فسامحته في الخمس جنيهات؛ لعله يغسلها بها!.
- بارك الله فيك!.
- ولاحظتُ أيضاً أنه يرتدي سروالاً ممزقاً، الحقيقة أخذتني به الشفقة، وعدتُ له بعدما خرجت، وأعطيته خمسة جنيهات أخرى، واكتفيتُ بالخمسة وسبعين!.
- والله إنك لحبيت قلباً رحيماً، ليت كل الفقراء مثلك؛ يشعرون بمعاناة أخوانهم الأغنياء، والله لكنا قضينا على ظاهرة الغنى المستشرية بالبلاد.
- الحمدلله... أنت تعرف أخلاق أخوك.
هب سعيد واقفاً، قال:
- هناك مقاول أنفار قادم هيا نركض صوبه، لعله يختارنا من بين الألف عامل!.
ركض الجميع ناحيته فاختار منهم من اختار ولم يحالفهم الحظ؛ عادوا لجلستهم على الرصيف، ومن حولهم العمال بطول الرصيف، قال سعيد :
- أتدري يا عادل؟ أنا راضٍ لستُ غضبان من قلة المال!.
- إذا ما الذي يغضبك ؟.
- مايغضبني ويحز في نفسي؛ أنني لن أذهب عطله نهاية هذا الأسبوع إلى شرم الشيخ كالعادة؛ لأن مفاتيح سيارتي "الهامَر" نُشلَت مني في "حافلة هيئة النقل" وسُرقت مني أيضاً "مطرقة" زنة الكيلو جرام !.
ضحك عادل، قال:
- ويحك! لقد قلت لك نأتي بها إلى الرصيف بدلاً من "الحافلة " وأنت الذي رفضت ، تستحق ما حدث لك؟.
نظر سعيد إلى عده صديقه عادل، قال:
- ماهذا إنها مطرقتي المفقودة معك بين أدواتك ، يالك من لص بارع !.
وقف عادل قائلاً:
- سأذهب إلى رصيف آخر ، وأتركك هنا مع مطارقك الطائرة!.
- لقد وجدتُ معك المطرقة إذا مفاتيح "الهامر" بجيبك لن أتركك حتى تخرجها يا لص؟.
فحمل عادل حقيبة عدته وجرى بعيداً عن سعيد مردداً بصوت عالٍ:
- إن لحقت بي فسأعطيك إياها وإن لم تلحق فسأقذفها في بالوعه الصرف المنفجرة هناك؟.
جرى خلفه سعيد، صائحاً:
- يا ابن المجنونة لا تلقها في البالوعة حتى لا تصدأ ، انتظر ، لا تلقها ، سألحق بك؟!.
وابتعدا عن موقف الحي العاشر قليلاً؛ وبعد دقائق؛ وجدا في طريقهما مسيرة تحمل الأعلام وتهتف بالمقولة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة انسانية" !.
تعجبا، اقتربا من المسيرة، سأل عادل شاباً من المتظاهرين، قال:
- إلى أين أنتم ذاهبون يا أستاذ؟.
فأجاب الشاب متحمساً:
- إنهم يوزعون وجبات دجاج محمر ومياه غازية ونقود . . . تعالا معنا؟.
همس عادل لصديقه:
- ما رأيك يا سعيد، هيا بنا لنرافقهم وبعد أن نأكل الوجبة ونأخذ النقود؛ نبحث عن مظاهرة أخرى؟.
- يا غبي ألم تسمعهم يهتفون"عيش"؟.
- سمعتهم!.
- سمعتهم ولم تفهم أن وجباتهم ليس بها خبز! وهم يطالبون به؟.
- ولكن لِم الخبز؟ الدجاج يؤكل بلا خبز هنا!.
- غريبة! في بلدتنا نغمسه بالخبز!.
- في بلدتكم لا تأكلونه أصلاً... هيا بنا ياغبي؟!
وما إن انضما للمظاهرة حتى أوقفتهم سيارات الأمن المركزي، وبدأت باعتقالهم وشحنهم بالسيارات. أحاط المجندين بعادل وسعيد، صرخ سعيد:
- إلى أين أنتم آخذوننا؟.
اقترب منهم ضابط وسيم، طويل القامة، ضخم النسيج، قال لسعيد:
- لدينا وجبات طعام أفضل من طعامهم!.
- ألديكم خبز بجانب الدجاج؟.
- بلى!.
- إذا هيا بنا معهم ياعادل؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق