قُربان | قصة قصيرة | رعب - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

مرحبا بكم

الخميس، 24 أكتوبر 2024

قُربان | قصة قصيرة | رعب

 


رَحَلَ عن القرية ولم يعد، ربما لن تطأها قدمه ثانية.

دَّكَّته الرابضة أمام داره ذو الطابق الوحيد، المُشيَّد من الطوب اللبن على عَجَل _تراكمت على خشبها الأتربة، وتحلَّقتها نباتات الحلف المُصفِّرة الشائكة.

أرضًا؛ أمام الباب الخشبي، الذي تشعَّبَتْ حوله خيوط العناكب فكادت أن تخفيه؛ طَفحَتْ بُقع الأملاح ذات الرائحة النتنة من أعماق الأرض. إن كان موجودًا وحدث ذلك، لأتى بطسوت الماء وسكبها فوقها، ثم قلَّب الأرض بفأسه ودكَّها، وما أن ينتهي، إلا ويسيل العَرَق عل جبينه البارز كحبات الماس.

لحيته بيضاء مُشذَّبة، وبشرته حمراء وردية عجيبة، وحاجباه كثَّان، أما عمامته فدائمًا خضراء. يرتدي دومًا جلبابًا أبيضًا قصيرًا. دخل القرية منذ عام على حين غَفلة، وبعد انتهائه رحَل. العجيب لم يكترثُ له أهل القرية مثل اكتراثهم لأي غريب!

ابتاع قطعة الأرض الواقعة بالقرب من المقابر، والبعيدة عن ديار القرية من أحد أفرادها، واكترى الأنفار والبنائين، وشيَّدها على عَجَل. وقت قدومه لم تكن أمتعته كثيرة مُلفِتة؛ ثلاثة أجولة خيش؛ جِوال مُنهن بدا أنه ممتليء بالأوراق أو الكُتب.

في غبشة الفجر كل يوم عدا الجُمعة؛ يكترِ عربة بحوذي، ويحمل عليها القصعة وتنكة الزيت وعجينة الفلافل والموقد، وبعض الأسفاط. وأمام الوحدة الصحيّة المُحاطة بسور قصير، ومُشيّدة من طابق لاغير، تتخللها شجرات الزينة، وقدام موقف سيارات القرية؛ يفترش حاجياته، ويبدأ بقلي الفلافل، حتى تصله أسفاط الخبز الساخنة من فُرن قريبة من موقف السيارات، فوق ذات العربة.

عرفه جميع السائقين؛ لقبوه بالشيخ الأحمر، فلم يعرفوا له اسمًا، ولم يتجرَّأ أحدًا على طلب معرفته! فقط كانوا يتعجَّبون من لهجته التي تقع في المنتصف مابين القاهرية والجنوبية؛ مُغايرة للهجة أهل القرية البدوية.

”أبنوب... عرب مطير“، ”الذاهب إلى مركز أبنوب...“

ذات صباح؛ تعالت النداءات بجوار سيارات النقل المُفصَّلة لها صناديق من هياكل معدنية وقماش، وألواح خشبية؛ لنقل الركاب من موقف "عرب مطير" أمام الوحدة الصحيّة بالقرية إلى مدينة "أبنوب". توقَّف سائق عن النداء، وتقدَّم صوب الشيخ الأحمر في خطوات متئدة بجلبابه الفِضفاض، ورائحة الفلافل تخترق أنفه. تناول الخبز والفلافل، وقعد على البساط، ثم وضع إفطاره فوق سفط مقلوب. بدا على وجهه ذا الملامح المنقبضة أنه يعاني من أرهاق ما؛ رمقه الشيخ بنظرات عطوف تتوسط وجه باسم، وطشيش الفلافل في قصعة الزيت فوق الموقد يتوانى:

- هل تعاني من هذا الصداع كثيرًا يا "شريف يا ابن سالم"؟

تعجَّب السائق: كيف عرف اسم أبي! ربما سمعه من أحد زملائه! وأجابه:

- قبل مجيئك لنا بشهور ياشيخ!

صمت الشيخ لحظات انشغل فيها بلف قرطاس فلافل من الصنية أمامه لطفل صغير؛ ثم أخذ منه المال ورحل:

- سيزايلك بلا رجعة إن شاء الله.

قالها له الشيخ بتقاسيم جادة؛ ابتسم السائق في وجهه مُجاملًا إياه، ومُفكِّرًا: ربما يمزح، أو ربما كان شيخًا لديه ملوك من الجن المؤمنين؛ ربما ساحر! لا ليس ساحر، وجهه الوضَّاء لا ينم سوى عن خير؛ أجل، أو ربما يمزح، ولكن كيف عرف بأمر الصُداع؟! مرّت أيام، وتفاجأ الشيخ بعد صلاة إحدى الجُمَع ببابه يُطرق، ولمَّا فتحه وجده السائق:

- شريف... أهلًا، تفضَّل؟

تلجلج شريف:

- بارك الله لك ياشيخ...

ابتسم الشيخ وكأنه يعرف سبب قدومه:

- ما فعلتُ شيئًا؛ ما نحن إلا أسباب ياولدي!

- لقد زايلني الصُداع؛ والبركة على يديك...

تضايق الشيخ:

- قلت لك نحن أسباب ياولدي، تفضّل لتشرب الشاي؟

فكَّر شريف قليلًا، وبدَت حيرة وجهه:

- سامحني ياشيخ، ولكن أريدك أن تأت معي إلى بيتي، أريد منك خدمة بارك الله لك؛ إن ابني يعاني من صُداع أفتك مما كنت أعاني منه؛ دبّ به مذ دبّ بي، ونريد لبركتك أن تحل بدارنا... هو ولدنا الوحيد الذي لم ننجب سواه... ما رأيك ياشيخ؟

تفحّص الشيخ عينا شريف بابتسامة غير مُكتملة للحظات، ثم استدار نحو الداخل:

- سأحضر عباءتي، انتظرني؟

تمشيا جوار بعضهما على الأسفلت، ثم انعطفا شِمالًا إلى داخل طرقات القرية الترابية، مرّا بين ديار القرية المتنوِّعة مابين الطوب النيء والآجر بطوابقها التي لاتزيد عن ثلاثة. كانت العيال تصيح خلفهما بنزق: ”هاهو الشيخ الأحمر يمر“، ”شيخ الفلافل رائحته فلافل“. لم ينزعج الشيخ قدر انزعاج شريف:

- عيال ياشيخنا لا تأخذ على خاطرك؟

لم يجبه سوى بابتسامة مصوَّبة إلى موضع خطواته.

في الدار؛ استقبلتهما زوجة شريف الملفوفة بثيابها الفِضفاضة من خلف الباب الموارب مُرحِبة، ودخلت لتعد الشاي، فجلسا على الدَّكة جوار بعضهما. دقائقًا كان الشيخ يتأمل فيها حِزم بوص السقف، وجدران البيت الطينية الناتئة، والممتلئة بالشقوق؛ كانت قد أحضرت فيها الزوجة الولد وصنية الشاي.

- ما اسمك يافتى؟

سأل الشيخ الصبي الهزيل قمحي البشرة، ذو السبعة أعوام، فأجابه مُستحيًّا:

- "سالم".

كانت الأم تتوارى بعيدًا خلف ستارة قماشية؛ تراقب مايحدث، وتعجَّبَت كثيرًا من نظرات الشيخ لابنها، نظرات أورثتها خيفة على الصبي، وكأن عينا الشيخ تلمع بوميض ترجف منه القلوب، وميض لم تنساه أبدًا منذ ذلك الوقت.

لمّا شعر الشيخ بمراقبتها لهما، نظر إليها نظرة حادة، جعلتها تتراجع إلى الداخل كالمنوَّمة، وزوجها يجلس جوار الشيخ، وعبارات الترحيب تتطاير من فاه بسذاجة.

- سيطيب قريبًا إن شاء الله.

بعد جلسة تأمل للصبي، نطقها الشيخ، فسعد الأب، وظل يدعو له، وذكَّره بكوب الشاي الذي برَد أمامهم.

- أجهِّز الغداء ياشيخ؟

- لا داعي لتعبكم؛ سأكتفي بالشاي.

ليلتئذ؛ قالت أم الصبي لزوجها:

- قلبي غير مُرتاح ياشريف لذلك الشيخ، أخشى منه على الولد!

كان شريف يدخِن النرجيلة، وزوجته تُكَرِّس له فوقها قِطع الفحم المُتقدة:

- إنه بركة يا حمقاء؟

- لقد خِفتُ من نظراته للولد!

نفث شريف عمود دُخان، وأشار لها أن تجلس بجواره على الدكة:

- تلك النظرات التي رأيتها؛ ربما ليست نظراته، غالبًا هي نظرات ملوك الجان المؤمنين الذين يساعدونه في شفاء الناس.

تبلبلت الزوجة، وأخذت تتعوَّذ مُرتعدة.

في إحدى الصباحات، بعد مرور أسبوع؛ تلألأت الشمس من خلف أكمة النخيل. من موضعه خلف قصعة الزيت؛ رأى الشيخُ الصبيَ "سالم" تمسكه أمه من يده، وتدخل به إلى الوِحدة الصحيّة، فابتسم له، ولكن أمه سحبته مهرولة إلى داخل الوحدة، فتفلَّت منها الصبي، وركض إلى الشيخ؛ سلَّم عليه، فسأله الشيخ:

- كيف حالك ياسالم اليوم؟

نظر الصبي إلى الفلافل الساخنة، والتمعت عيناه، فضحك الشيخ، وأمسك برغيف، وضع به قرصي فلافل وأعطاه له، أخذها الصبي، وابتعد فرحًا مرددًا:

- الحمد لله، ياجدي الأحمر؛ أنا ذاهب مع أمي؛ هي المريضة لستُ أنا.

ضحِك الشيخ، ثم عاد لينهمك في عمله.

في صباح هاديء؛ انطلق نداءً من الجامع الكبير: ”يا اهالي القرية الكِرام، سالم ولد شريف تايه من ليلة البارح؛ اللي يلاقيه يوديه لبيت أبوه شريف ولد سالم وتبقون ماقصَّرتم...“ تردد النداء بين جنبات القرية، لتضرب العجائز كفًا بكف، ويمصمصن شفاتهن، وتجري العيال بين ديار القرية وخراباتها باحثين عن الصبي.

أمه وأبوه صارا كالمجنونين، تائهين بين شوارع القرية وأزقتها يسألان حتى أشجار النبق والنخيل، حتى الكلاب الضالة، والبؤس والدهشة يعسكران بوجهيهما.

في هذا الصباح؛ رأى بعض أهل القرية الشيخ الأحمر يرحل فجأة، وقد زادت أجولته الضِعف؛ ثقلَت فوق العربة، وكأنها مُلئت معادنًا وأحجارًا. وبعد رحيله أفاق الجميع متسائلين في جلسات سمرهم الليلية وحلقاتهم حول النار عن كنهه، وكيف قبلوه بينهم دون معرفة أي شيء عنه!

بعد رحيله، لم يكن يتجرأ أحدًا من أهل القرية على العبور من أمام دار الشيخ المهجورة. في هويد الليل؛ كانت تُسمع صرخات طفل مُزلزلة، ترعب أعتى الرجال شجاعة!

بعد مرو شهرين؛ كان شريف يجلس أمام بيته بين جمع من الرجال حزينًا شاردًا. لقد حكى لهم عن حِكايته هو وابنه مع الشيخ الأحمر، وحكى لكل من قابله، عساه أن يجد في عيونهم ثمة أمل. عرفت القرية بأكملها، وسيطر عليهم القلق، واعتَقدَ الجميع بأن وراء ذاك الشيخ سرًا ما!

في حلقتهم حول النار، أمام دار شريف؛ هب رجلا من بينهم مرددًا:

- لنذهب إلى داره ونبحث به عن أي شيء؛ لابد أنه ساحر، وربما قد اختطف الصبي ليمارس به سِحره؟

قال آخر:

- لا تخشوا شيئًا؛ نحن رجال كثر وعلى قلب رجل واحد، والعفاريت تخشى جَمْعَة الرِجال المأتلفة!

كانت الأم بالداخل مُنزوية بأحد أركان البيت مُنكمشة على نفسها. يتسرَّب إليها بصيص نور من النار بالخارج من نافذة أعلى الجدار، فتبدو في نعومة الظلام مثل لوحة زيتيّة باهتة. يتردد في أعماقها ذاك التحذير الذي أفضت به إلى زوجها ليلتئذ، لكنه لم يهتم: ”قلبي غير مُرتاح ياشريف لذلك الشيخ، أخشى منه على الولد!“ ثم نجوى حائرة تطلب فيها من الإله رأفة بحالها.

لم يكن هناك مُتسع من الوقت؛ صنعوا المشاعل من المفارش والبُسط، وأشعلوها من النار بينهم، وهبُّوا في جماعة تزيد عن عشرة رجال إلى دار الشيخ المهجورة، وبينهم شريف يمشي مُتخاذلًا. في طريقهم انضم لهم كُثر. لمّا وصلوا الدار، وجدوها مُعتمة، حطَّم بعض الرجال الباب ودخلوا، في حين أن شريف تخاذل مُتهالِكًا فوق الدَّكة أمام الدار يرتجف ويغمغم!

كانت الدار من الداخل موحشة، وتعثّر الرجال بأكوام من الرمل والطين اليابس، تقدموا أكثر فوقعوا على حُفرة في باحة الدار قُطرها مترًا ونصف المتر، وعُمقها لا يصل إلى خمسة أمتار، وكانت الصدمة حينما وجدوا دماءً جافة متناثرة حول الحُفرة وفي قُرارها فوق كومة صخور. تفرَّق الرجال بمشاعلهم مُتتبِّعين خطًا من الدماء المُقطَّرة إلى إحدى غرفتي الدار، فصاح أحدهم من الغرفة اليُسرى بملء فاه: ”لا إله إلا الله!“ هرع بقيَّة الرجال إليه، فوجدوه مُتيبسًا وبيده المِشعال أمام رمح غُرس وسط الغُرفة، في قلب نجمة خُماسية رُسمَت بالدماء؛ وأعلى الرُمح؛ كانت رأس الصبي "سالم" المقطوعة مُنغرسة به، ومُلطَّخة بالدماء، ومفقوءة عيناه، تسيلان من محجريهما دماء جفتْ.

لم يجدوا أي شيء غير رأس الصبي وفأس الشيخ ومقطف جلدي. خرجوا يلفون الرأس بجلباب أحدهم، وقدَّموها إلى شريف قائلين: ”إنا لله وإنا إليه راجعون“. شهق شريف مصعوقًا، وذُهل مُغمغمًا: ”كيف خدعنا؛ لقد كان وجهه الوضَّاء لا ينم سوى عن خير!“

اعترت شريف حالة اغماء، حاول الرجال إيقاظه، فلم يفق ولكن إصبعه الإبهام تحرَّك بطريقة عجيبة، وكأن يدًا خفيّة تتحكَّم به في أشارة إلى الأرض أسفل الرجال، فأفسح الرجال، فوجدوها بُقعة الأملاح، نزلوا يحفرون فيها بأيديهم، وما أن أحضر أحدهم فأس الشيخ من الداخل إلا وتعثَّرت أناملهم بشيء صَلب. ولمَّا وَسَّعوا حوله؛ وجدوها جُثة الصبي، وقد تآكل لحمها من الأملاح، وما تبقى سوى هيكلها العظمي!

لفوها في ذات الجِلباب، وحملها شريف على ذراعيه باكيًا مُتعثِّرًا بذيول جلبابه وحصباء الأرض كلما تقدَّم. وتحركت المشاعل تخترق الظلام صوب المقابر القريبة لإكرامها.

لم يبرأ "شريف ولد سالم" حتى الآن، صارت كل كلماته جملة واحدة، لا يلوك فمه سواها؛ يدور في الطرقات مرددًا إياها:

- لقد كان وجهه الوضَّاء لا ينم سوى عن خير!...


لقد رَحَلَ الشيخ الأحمر عن القرية ولم يعد، ومؤكد لن تطأها قدمه ثانية.

______

تأليف:

رمضان سلمي برقي

إحدي قصص المجموعة القصصية الورقية "أنشودة الموت"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق