النصر والقلادة | قصة قصيرة لرمضان سلمي - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

اعلان 728X90

الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

النصر والقلادة | قصة قصيرة لرمضان سلمي



في دارٍ صغيرةٍ من طابقينِ؛ بُنِيَتْ من الطوب الآجر، تحتضنها الغيطان الخضراء كأم تطوق صغيرها بذراعيها؛ وفي شرفة البيت؛ تجلس امرأة بالعقد الثالث من العمر، على كرسي خشبي، ومن أمامها منضدة وثيرة عليها كوب شاي ساخن تتصاعد منه ألسنة البخار؛ بدت بيضاء البشرة، ذات عينان واسعتان سوداوتان، مرتدية عباءة حمراء مزركشة بالورود، وطرحة بنفسج. ارتشفتْ من الكوب ثم وضعته، وشرد ذهنها، ولاحت ابتسامة على ملامحها لمَّا تذكرتْ أول مرة رأته بها، كان ذلك منذ عام مضى..
***
طرق "حسن" الباب؛ لم يجب أحد؛ كان "منتصر " صديقه يصلي؛ هرولتْ - هي - أخته "زينة" لتفتح الباب، بعباءتها القطيفة الحمراء الضيقة، وشعرها المتهدل على كتفيها بلا غطاء؛ منحوتة الخصر، متوسطة القامة؛ نهديها كرمانتان ناضجتان جاثمتان على صدرها، وردفيها ثقيلان يرتجان من هرولتها. وما إن أزاحت الباب حتى رأت "حسن" بالبذلة العسكرية مبتسماً ومنتصباً أمام الباب؛ بدا شاباً طويل القامة، ممشوق القوام، قمحي البشرة، حليق الشعر والذقن؛ تسمرتْ موضعها صامتة تتأمله، وبدأ قلبها بالخفقان، وقف حسن مذهولاً من جمال ذلك القمر الذي طل عليه فجأة من خلف الباب الخشبي، تساءل من تلك الفتاة الجميلة؟ وما كنهه الاضطراب الذي باغت قلبه لمَّا التقت عيناهما؟.
فرغ منتصر من صلاته؛ تعجب من ذلك الهدوء المفاجئ الذي أصاب المنزل، نادى:
-  زينة... أين أنتِ؟.
 لم تجب، دلف صوب الباب رافلاً في جلبابه الأبيض؛ وجد حسن صديقه واقفاً متعرقاً أمام زينة وسائد بينهما صمت لا يخلوا من الكلام، قاطعهما:
- حسن!.
لم يفيقا بعد؛ زعق:
- حسن؟.
أفاق حسن من سكرته؛ شعر بالحرج. اكتشفت زينة أنها في موقف محرج أيضاً؛ دخلت مهرولة. قال حسن:
- لقد وصلتُ إليك يا منتصر طبقاً لوصفك دون أن أسأل كثيراً!.
- حمداً للّٰه على سلامتك ياصديقي ، نورت الدار المتواضعة؟.
دخلا باحة الدار؛ جلسا على الدكة؛ وتبادلا أطراف الحديث؛ شعر منتصر بأن حسن يريد أن يستفسر عن شيء ولكنه محرج، قال له:
- تلك الفتاة التي فتحت لك الباب هي أختي الصغيرة "زينة".
- اعتقدتُ من كلماتك القليلة عنها بأنها طفلة، ولكن لمَّا رأيتها تأكدتُ أن فتيات مصر هن الأجمل في العالم أجمع!.
- لاحظ أن من تتغزل في محاسنها الآن هي أختي؟.
وضحكا الاثنان وعلت قهقهاتهما. ومن الداخل ودونما أن يشعر بها أحد؛ كانت زينة تضحك أيضاً، وتحاول تهدئة خفقان قلبها الذي زاد تواً مذ أن رأت حسن، تساءلت في نفسها: «لماذا دق قلبي له؟ حسن وضابط طول بعرض، ماذا حدث لي ؟.»
- اصنعي الشاي لأخيك وضيفه بسرعة؟.
نهرتها أمها، ودلفت إلى باحة البيت لتسلم على حسن. دخلت زينة غرفة المطبخ، وكانت بارزة عن الدار؛ معرشة بجريد النخل. جلست أمام الكانون؛ راحت تكسر الحطب شاردة ومنصتة لعلها تلتقط من صوته كلمة أو ضحكة فتهدأ دقات قلبها!.
تكررت الزيارات والتهبت معها جمرات الحب بقلبيهما. بعد مرور شهور؛ في خندق على الجبهة؛ كان منتصراً جالس ببدلته الكاكي؛ ينظف بندقيتة فوق خرقة قماش، ومن حوله الجنود نائمين فوق أسرتهم متعددة الطوابق. دخل حسن ببدلته المموهة، وبيده بندقيته الكلاشنكوف؛ وقف منتصر؛ تعانقا ثم جلسا بجوار بعضهما البعض. أخرج حسن سجائره، أعطى منتصر واحدة وأشعل واحدة، قال حسن:
- أريد أن أتزوج زينة؟.
ابتسم منتصر، قال:
- كان يتملكني احساس أنك ستقولها لي يوماً ما!.
- وها قد صدق احساسك... مارأيك؟.
- موافق طبعاً... لكن؟.
حدجه حسن مقطباً، ضحك منتصر، قال:
- لا تقطب يا صديق؟ أقصدُ أن يكن الفرح بعد معركة الثأر، بعد استعادة سيناء، لتكن الفرحة فرحتان!.
- الله أعلم بميقاتها يامنتصر، نحن الآن جاهزون ولكن مابه الخير حتماً سيقدمه الله!.
- إذاً الخطوبة بالأجازة القادمة..
تمت الخطبة، وعادا من الأجازة، وبعد أيام؛ دخل حسن على منتصر بالخندق، قال:
- جاهزون؟.
كان منتصراً واقف، ومن حوله رهط من الجنود يرتدون بدلات مموهة، ويطلون وجوههم بالأصباغ السوداء، قالوا:
- جاهزون!.
في جنح الليل؛ عبروا قناة السويس بفالوكة؛ زحفوا تحت الأسلاك الشائكة، وصلوا لنقطة من نقاط العدو، لغموها، وهموا بالرحيل. وفجأة؛ أُطلِق الرصاص عليهم؛ أصيب منتصر، سقط ليلفظ أنفاسه الأخيرة، وتبادل بقية الجنود اطلاق النار مع العدو. حمله حسن، وزحف به صوب القناة، تمتم منتصر:
- وصيتك زينة... تزوجها ياحسن؟.
- ستحيا يا منتصر، ستحيا؟
فاضت روحه إلى الخالق، تمتم حسن:
- ستحيا في قلوبنا.
وسالت دموعه بغزارة..
تزوج حسن بحبيبته دونما أية معالم للفرحة. أتى بعض الأصدقاء من القرى والنجوع والعزب المجاورة للتهنئة والمباركة، وأتى بعض ضباط الجيش والمجندين؛ وكانت هناك إجازات للكثير منهم، وكان حسن قد حصل على إجازة لمدة شهر؛ لكن لم يمر على عرسه سوى أسبوع، كلما هم بالانغماس في سعادته بزواجه؛ تذكر استشهاد صديقه على يديه، وتذكر الدماء والأشلاء..
ذات مرة؛ كان نائماً، وبجواره زينة مستيقظة، سمعته يتمتم:
- ستحيا يا منتصر... ستحيا!.
سالت دمعاتها..
كانت زينة تأخذه بين ذراعيها وتبكي وتقول له: «لا تُجهد نفسك إن شاء الله النصر قريب، ودم أخي لن يذهب هباءً منثورا أبداً؟» وقتئذ؛ كان يرمقها حسن بنظرات كلها عطف ومحبة، وخوف أن تفقده إن فقد الحياة، ولكن قضيته هي حياة الوطن وليست حياته، ولكن زينه لم يعد لها أحد سواه، زينه أيضاً وطن !.
باليوم السابع طُرِق الباب طرقات سريعة وقوية، فتحت زينة الباب؛ فاذا بجندي من نقطة الشرطة، وفي يده ورقة استدعاء للضابط حسن، وأمر بقطع الأجازة..
بكت زينه  كثيراً، وقد جهزت حقيبته؛ وأوصته كثيراً، قالت:
-  لقد دعوتُ الله أن لا أفقدك ، فعُدْ إلينا بالنصر ، وأثأر لدم أخي من هؤلاء الأنجاس ؟.
وأهدته قلادتها المعدنية؛ المنقوش عليها "آية الكرسي" بعد أن قبَّلتها، فأخذها منها ودمعاته تقطر بلا إرادة، قال لها :
- سأفتقدكِ كثيراً حبيبة القلب، إن حدث لي مكروه فظلي على عهدكِ بي وتذكرينني بكل خير؛ لنلتقي ثانية بالجنة ؟.
غمرته بأحضانها لدقائق ، قالت:
- أحبك وسأظل أحبك مهما فرقتنا الحياة ، وإن حدث وافترقنا فسنلتقي في الجنة إن شاء؛ أنت شهيد وستشفع لي عند الله؟.
ودَّعها وتوكل على ربه وعينيه كلها إصرار وأمل غارقين في دموع الفراق والجهل بالمستقبل تتخللهما دقات قلب ازدادت كطلقات المدفع الرشاش..
مرت الأيام ولم تسمع زينه أي خبر جديد؛ كل يوم تجلس بالشرفة أمام المذياع حزينة وشاردة تارة وحريصة ومنسطة تارة أخرى، تتلهف أي خبر عن الزوج الغائب ، أو أي أخبار عن الجبهة. شحب الجمال من وجهها وانتشرت تفاصيل البؤس حتى سيطرت على كامل معالم وجهها الجميل سابقاً!.
في السادس من أكتوبر عام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف؛ كانت كالعادة تجلس أمام المذياع، وبدأ ذلك البيان يبث بعبور القوات المسلحة المصرية لقناة السويس وتحطيم خط بارليف؛ اِنتفضتْ زينه في ذهول ودموع الفرح تنهمر على خديها الأسيلين؛ وصرخت فجأة: « الله أكبر الله أكبر... تحيا مصر».
خرَتْ ساجدة لله فرحة وشاكرة ودموعها تسيل كما سالت رمال ”خط بارليف“ من شدة عرق الجنود تحت بياداتهم، ظلت تدعو الله تعالى؛ أن يرجع لها زوجها سالماً، وتتضرع إلى الله حتى يتقبل دعائها..
حسن؛ كان قائداً على رأس كتيبته؛ عبروا وسيطروا على الضفة الشرقية للقناة، وما يزال حياً يقاتل ويأسر، ولكن صدر أمر بوقف إطلاق النار، وقتئذ؛ اعتلى حسن ظهر الدبابة يصرخ بالجنود:
- استمروا لن نتوقف؟ لقد انتصرنا فلنكمل إذاً، فلنسترد سيناء ثم القدس؛ إن تل أبيب ليست ببعيدة، فلنسحقهم سحقاً؟.
رد عليه أحد الجنود:
-  ليس الآن يا حسن، لم يحن الوقت بعد يا صديق، لقد تدخلتْ دول قوية وساندت الصهاينة؛ ستميل الكفة ياصديق!.
صرخ حسن، قال:
-  إذاً فمتى !؟.
رد جندي آخر :
-  لمَّا ننصر الله...سينصرنا!.
فتح حسن نيرانه ناحية الأعداء؛ فاذا برصاصة طائشة أصابته بصدره؛ سقط على إثرها أرضاً من فوق ظهر الدبابة؛ جرى عليه الجنود وسط وابل من نيران مدافعهم الرشاشة باتجاه مصدر الرصاصة..
مرت الأيام والليالي وانقطعت الأخبار؛ بدأت الإجازات بعد وقف إطلاق النار وبدأت جثث الشهداء في العودة إلى زويهم؛ تردد بالقرية نبأ استشهاد حسن، ولكن مازالت زينه  تمتلك ثمة أمل ولم تصدقهم بعد..
أصبحتْ تنتظر كل شروق شمس أن يطرق بابها الزوج الحبيب. في كل شروق تنزل بين الحقول، وتتحدث إلى الزهور وتحكي مع الطيور وتعندل مع العنادل على أغصان الزيتون؛ ناشدة لهم قصة حبها، وتبشرهم بأن حبيبها سيعود وأنه لن يتركها أبداً، وعند الغروب تتحدث إلى ذلك القرص الذهبي وأشعته المنثورة  في سماء زرقاء صافية، تقول:  «إن شاء الله غداً سيشرق وجه حبيبي قبل أن تشرق أيها القرص الجميل!.» ويأتي الصباح، ويشرق القرص الذهبي، ولا يُشرق وجه الحبيب..
ذات يوم؛ عادت إلى الدار؛ افترشت ذكرياتها وراحت هائمةً في حبيب لم تطل فترة لقائه إلا أسبوعاً، ما ارتوت بعد من حضنه الدافئ.
أُذن للفجر؛ وبدا أنها لم تنم بعد ، وهذا حال لياليها بعد فقدان الحبيب. صلَت في خمارها، وجلست مكانها في باحة الدار؛ أمامها باب المنزل كالعادة، والنوم يصارعها ويغلق عينيها تارة ويفتحها تارة أخرى.
فجأة؛ طُرق الباب فظنتْ أنها تحلم أو يخيل لها؛ طُرق مرة أخرى؛ انتفضت من مكانها واقفة وهرعت باتجاه الباب لتفتحه؛ لم تجد أحداً بعد أن فتحته؛ أدمعت عيناها وأيقنت أنها أوهام وقد خُيل لها من كثرة السهر؛ همَّت بالذهاب إلى غرفتها لتنم قبل شروق الشمس كعادة لياليها بعد الفراق، وما إن خطت خطوة حتى طُرِق الباب مرة أخرى؛ انقبض قلبها وارتجفت وتصبب العرق من جبينها، تثاقلت خطواتها تجاه الباب؛ يلتحفها الخوف من المجهول؛ ترتعش يديها وهي هامة بمسك المقبض، فتحت الباب؛ إذا به زوجها وحبيبها حسن في بذلته العسكرية؛ مشرق وجهه كنور الشمس؛ تُرسمُ على شفتيه ابتسامة عريضة تأوي بين طياتها جميع أنواع السعادة والفرح والنصر.
توقفت زينة في ذهول؛ أدمعت عيناها، قالت بصوت متهدج:
- الحمد لله... لم أصدقهم... الحمد لله وحده لقد  تقبل مني... رجائي وعدتَ لي سالماً يا حبيبي.
ارتمت بين أحضانه؛ توقف الزمن لبرهة ثم عاد يتابع اللحظات السعيدة ببطء سلحفاة؛ وجدَتْ زينة نفسها في أحضان الحبيب وراحا بعيداً لعالم العشاق حيث الأمان والسعادة والدفء ، ودقات القلب تحملهم بدون قيادة..
بعد دقائق؛ أفاقا من عناق المشتاقين، حملها فوق ذراعيه، دلف بها إلى غرفة النوم، وضعها فوق السرير، جلس بجوارها، قالت:
-  لقد أشيع أنك لاقدر الله... لكني لم أصدقهم... افتقدتك كثيراً يا حسن؟.
طوقها بذراعيه، قالت:
- أحكِ لي كيف كان حالك وماذا حدث لك ؟.
انفك عنها، أشعل سيجارة، قال:
- أما أنا فلم أفتقدكِ لأنكِ كنتِ معي؛ كنتِ بعيني حين أُغمِضها؛ كنتِ بقلبي حين تحن دقاته إليكِ؛ كنتِ بعقلي تشغلينه؛ كنتِ بآذاني تأمرينني أن أنتقم وتدعين لي أن أنتصر، عيناكِ كانت تميمتي، وصورتكِ كانت رفيقتي ، وصوتكِ كان مؤنسي.
وضع يده بجيبه وأخرج القلادة؛ نظرت إليه باستغراب، مد لها القلادة؛ نظرت إليها فوجدت بها أثراً لرصاصة كادت أن تنفذ منها، عندها احتضنته سريعاً قالت:
-  ماذا حدث لك يا حسن؟.
-  لقد كَتَبَ الله لي عمراً جديداً بسببكِ أنتٍ وبسبب حبكِ ودعواتكِ لي، بعد العبور أخرجتُ قلادتكِ وقبًّلتها ثم وضعتها بجيبي أمام قلبي حتى تهدأ دقاته التي لم تتوقف من الاشتياق إليكِ، ودعوتُ الله أن أراكِ ثانية، وكنتُ ساخطاً غاضباً من قرار وقف اطلاق النار، وبينما أنا واقفاً أصيح بالجنود فوق ظهر الدبابة؛ إذ أطلق أحد الأعداء عليَّ النار من مسافة بعيدة، وما إن وصلتني الطلقة وقد كانت في آخر مرماها المؤثر، حتى شاء الله أن تصطدم بتلك القلادة فتتوقف عند هذا الحد وكانت سبباً في حياتي الجديدة والحمد لله..
نقأ وجهه؛ تراقصت الدمعات في عينيه، ضمها بشدة، قال:
-  لقد ثأرنا لكِ يازينه ممن حرمونا من منتصر ومن كل شهدائنا؛ لقد أثخناهم بفضل من الله ولقناهم درساً لن ينسوه أبداً، لولا استنجادهم بدول الغرب لإنقاذهم منا، وسيسطر التاريخ كلماته وشهاداته؛ لقد كنا أبطالاً حتى النصر "الله أكبر وتحيا مصر" كانت إيماننا جميعاً ولم تكن مجرد شعاراً، فنصرنا الله عز وجل، وهاأنذا أمامكِ وبيداي النصر والقلادة، فضميني الآن يا زينة أكثر، فلن أفارقكِ حتى آخر دقة قلب في عمري..
دمعتْ عيناها وهي تتذكر كل تلك الأحداث الجميلة؛ وضعت يدها على بطنها التي انتفخت قليلاً، قالت في نفسها : «إن شاء الله عندما يأتي إلى الدنيا - إن كان ولداً - سنلحقه بالجيش.»
- يا أم منتصر ؟.
انتفضت واقفة، تمتمت بسرور:
- إنه صوت حسن وقد عاد من الجبهة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق