عبدالشيطان _ قصة قصيرة لرمضان سلمي برقي - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

اعلان 728X90

الاثنين، 14 أكتوبر 2019

عبدالشيطان _ قصة قصيرة لرمضان سلمي برقي




- خُيِّرْتُ بين جنتين؛ جنة الدنيا وجنة الأخرة، فاخترتُ الأولى بمحض إرادتي، عشتُ أكثر من عشرين سنة في الوحل، عشتُ عمراً من اللذة في خِضَمِّ الخطيئة، اتخذتُ الشيطان ولياً، بل معلماً، بل كان إله، وكنت عبداً له؛ أرتلُ له الصلوات بين نهود الغواني، كنت أركعُ له فقط بين أفخاذ البغايا، كنت أتطهرُ له بالخمر. كان الكذب منهاجي، كانت النذالة صديقتي، سَفَكْتُ دماء أبرياء كثر، كنت أشعرُ بنشوة وأنا أحرِمهم من الحياة بسادية، كنت أستمتعُ بآلامهم وبغرغراتهم ... شعور ليس له مثيل؛ حينما تشاهدُ إنساناً يودع الحياة رغماً عنه وأظافره منغرسة بوجهك تتسول منك مهلة أخيرة، ونظراته العاجزة تتوسل منك الرحمة، ورغم ذلك ؛ لم ترتجف لي فريصة.
 لم أتزوج، لم أعرف للاستقرار طريق، كان عدوي الوحيد الأوحد هو الحب؛ فمعلوم لي أن الحب مرض يُضعف القلوب!... أعرف أنك مشمئز متقزز متأفف، بل أعرف أنك ترتعدُ خوفاً مني، وأعرفُ أنك تخيلت مصيري بالآخرة، وربما اقشعَّر بدنك من هول مصيري، أرى العرق المتصبب من جبينك، ألاحظ جفاف حلقك، وهروب رضابك، ولكن دعني أحكي لك عن إحدى خطياتي؟
في غرفة واسعة ليس بها أثاث، ذات سقف مرتفع، يخترق ضوء النهار نوافذها ذات القضبان الحديدية ليسقط أرضاً مُنكسراً تارة، ومستقيماً تارة أخرى؛ أطرق المتحدث رأسه وصمتَ لحظات، كان رجلاً بالعقد الرابع من العمر؛ مشعث الشعر واللحية، عيناه حمراوتان حادتان، وجهه شاحب وبه آثار سحجات قديمة، يرتدي البذلة الحمراء، مكبلة يديه خلف ظهره، يجلسُ على كرسي خشبي، وأمامه منضدة خشبية مستديرة، ويجلس قبالته من الجهة الأخرى، رجل دين بعمامة بيضاء، مكفهر الوجه، ذا لحية بيضاء قصيرة، يرتدي جبة رمادية، وأسفلها قفطان أبيض، قال:
 - احك باختصار  ولا تُمَطْمِطَ في الكلام ولا تضيع الوقت، حتى ينَفَذ فيك حكم الإعدام؟
- حسناً سأختصر، ولكن لي رجاء أود منكم تحقيقه واعتبروه ضمن أمنيتي الأخيرة؛ أريد أن أدخن السجائر أثناء حديثي!
قالها المجرم غير مبالٍ، حينئذ؛ وقف الشيخ، تحرك داخل الغرفة الشاسعة ذات الجدران الأسمنتية؛ اقترب من باب حديدي يقفُ أمامه من الداخل مجندين في بذلاتهم الشرطية البيضاء، مدججين بالسلاح، قال:
- إن كان بينكم مدخن فاعطوني سجائر؟
أخرج مجند علبة سجائره، ومدها للشيخ، فأخذها وأخرج من جيبه بعض الجنيهات ودسَّها في جيب المجند، وهمس له:
- ابتع بها سجائر لك فيما بعد؟
عاد الشيخ؛ وضع السجائر أمام المجرم، قال المجرم مبتسماً:
- أريد قداحة وأريد فك قيودي وإلا كيَّفَ سأدخن؟!.
قام الشيخ ثانية، أخذ من المجند قداحته، فتح الباب وذهب إلى الضابط، واستأذنه فيما أراده المجرم؛ صاحبه الضابط إلى الغرفة متبختراً في بدلته البيضاء، ومسدسه معلق بحزامه، قائلاً:
- ياشيخ إنه مجرم خطير، وأخشى أن يقوم بأي حماقة معك!
- لا تقلق تلك أمنيته فلنحققها له، ولنكن رحيمين به في آخر لحظات حياته، وعلني أقنعه بالتوبة قبل موته؟
وبعد أن فُكَتْ قيوده، وأشعل سيجارته، زفر بارتياح، ثم قال شارداً:
- كان أبي إمام مسجد، تخيل يا شيخ، وأنا كما ترى، وكما يقال "يخلق من ظهر العالم فاسد" كنت أنا الفاسد في نظرهم، كان أبي يترجاني لأذهب إلى المسجد، وكنت أأبى بشدة، وأذهب لألعب مع أقرنائي، كنا نسرق الحوانيت ونهرب، كنا ندخن السجائر التي نسرقها، وكنا نعرقل المارة بفتات زجاج نضعه بالطرقات، وكنا نبذر المسامير في طريق السيارات؛ حتى أقرنائي لم يسلموا من حماقاتي؛ فقد فقأت عين أحدهم بشاظية زجاج لاختلافنا في اللعب، وقطعتُ كف آخر بساطور لمحاولته التحرش بي ومُضاجعتي آنذاك؛ كانوا يظنوني ضعيفاً مُخنثاً، ولكني أثبتُ لهم أني رجل وعلَمْتُ عليهم جميعاً.
أمي كانت تقول "أن الشيطان تلبسني" يقولون أنني مسكون، فهل أنا مسكون يا شيخ؟ وكيَّفَ لشيطان أن يسكن شيطان مثله؟ قديما كانوا يقولون لنا: "أن الشيطان لا يسكن أجساد مرتادي الخمارات، لكنه يسكن أجساد قليلي الإيمان" ولم أكن مؤمناً قط يا شيخ فكيَّفَ يسكنني الشيطان؟ ذات مرة أخذني أبي إلى المسجد عنوة، وقبيل الباب شعرتُ بأن قوة عظيمة تصدني، فلم يستطع أبي أن يزحزحني قيد أنملة من موضعي، صرت وكأني شجرة عتيقة ضَرَبَتْ بجذورها في أعماق الأرض، عندها تفلتُّ منه، ومن وقتذاك وأنا شارداً في البلاد، آكل من حرام، وأشرب من حرام، وبالليل أتدثر بأحضان الغواني.
بَدَتْ سيماء الدهشة والتعجب على قسمات الشيخ، وتململ ليصيخ السمع للمجرم أكثر، نفخ المجرم دخان سيجارته مُبتسماً، ثم قال:
- ذات مرة؛ نويت أن أزور والداي، ليس حنيناً لهما بل لأني كنت أمر بضائقة مالية وقتذاك وكنت أنوي سرقتهما أو طلب المال منهما، بعد عشرين عاماً من الغياب ياشيخ، وصلتُ الحي ليلاً وقبل أن أدخل؛ قابلت اثنين من أقرنائي القُدامى، وفي جنح الظلام؛ قاموا بتثبيتي بمطاويهم، ولكني أوسعتهم ضرباً، وقلت لهما مَنْ أكون، وتذكراني، وتذكرا خياناتي لهما، ولكنهما قالا لي أنهما افتقداني، وجلسنا ندخن الحشيشة معاً على جدار مهدم في خربة مظلمة -كانت بيتاً فيما مضى وتهدمت وأحاطتها أكوام القمامة من كل جانب- قال لي الأول وكان أعور:
- أُشْهِدُ ﷲ أني سامحتك يا صديقي على فقأ عيني، ومرادي أن نعيد المياه لمجاريها، ها ما رأيك؟
- موافق.
وقال لي الثاني وكانت كفه مبتورة:
- وأُشْهِدُ ﷲ أيضاً بأني سامحتك على قطعك لكفي، ومرادي أن نعيد المياه إلى مجاريها، ها ما رأيك؟
- موافق.
مر بعض من الوقت؛ تبادلنا فيه أطراف الكلام، قال لي الأعور:
- هناك فتاة بالحي لو رأيتها ياصديقي لسوف تُجَنْ من جمالها.
وأثنى الآخر على جمالها، وبدأ يعدد من صفاتها ومن فراهة جسدها؛ نهديها ردفيها، الحقيقة لم أستطع المقاومة أكثر، وتخيلتني بين نهديها، فقلت لهم :
- أريد هذه الفتاة؟
ضحكا، قال الأعور:
- حلال عليك ياصديقنا، لتكن أول مَنْ يتمطقها ونحن لسنا بطماعون، سنمصمص العظم الذي تتركه لنا، ولكن حاول أن تترك لنا حتى نسيلتين.
وضحكنا ثلاثتنا، والتحفتنا سحابة من الدخان، قلت فجأة:
- أين ومتى وكيَّفَ؟
تساءل ذو الكف المبتور، قال:
- صحيح كيَّفَ يا أعور، العاهرة لا تضاجع إلا أشخاص ميسورين ولا تنظر لمَنْ هم أدنى منها، ولن ترضى بنا نحن المشوهون؟
عندها استشطتُ غضباً ياشيخ، وقلت لهم:
- نضاجعها عنوة، ومَنْ يحاول التصدي لنا نضاجعه معها.
ضحكوا جميعاً، قال الأعور:
- إِذَاً فلنتحرك من الآن، فبعد نصف ساعة بالضبط ستمر بالطريق القريب من تلك الخربة، فلنختطفها، ونحصل عليها، هيا استعدوا؟
انتهت السيجارة، أشعَلَ الأخرى، وبدا الشيخ منتبه وغارق في عرقه، قال المجرم:
- ومرّت الفتاة مرتدية عباءتها السوداء الضيقة، وكانت بالفعل فارهة، وسرعان ما تحلقنا حولها، ولما صَرَخَتْ هددناها بمطاوينا، وكتمنا أنفاسها، وحملناها إلى الخربة الظلماء بعيداً عن إنارة الطريق، وضربناها حتى أغمى عليها؛ كان قلبها ضعيف، وخارتْ قواها مبكراً، فسهلت علينا كثيراً، كانت جميلة حقاً، وبدا وجهها مألوفاً لي، ولكني لم أبال، قالا لي:
- نحن على وعدنا؛ أبدأ أَنْتَ يا بطل؟
وبالفعل بدأتُ باغتصابها فوجدتها بكر، فسألتهم، فقالا لي:
- عملية ترقيع ياصديقي تقوم بها أسبوعياً لتزود الأجر .. تمتمت:
- أيتها العاهرة بعد الآن لن تجدي معك أيما عمليات!.
وبعدما انتهينا جميعاً؛ ألبسناها ثيابها، وكانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، تركناها وسط الطريق المقفر المؤدي للحي تحت إحدى أعمدة الإنارة فاقدة الوعي مضرجة بدمائها.
عَدَلْتُ عن فكرة زيارة الأهل بعد أن قشطنا أموال العاهرة، وأجلتها واختفينا جميعاً حتى تهدأ الأمور، وبعد مرور عدة شهور، وبعدما ضاقت بي الحال ثانية؛ قصدت الحي، وصلت بيتنا، طرقت الباب، فتحت لي عجوز جعدة؛ كانت أمي، دخلتُ وسط ذهولها وصمتها، وجلست على الكنبة بالصالة، أشعلتُ سيجارة دونما انفراج لشفتاي عن كلمة، قالت أمي:
- أأَنْتَ ابني؟
ضحكتُ، صَرَخَتْ على أبي، اِقْتَرَبَتْ مني، نَزَلَتْ على ركبتيها، وبدأت تتحسسني وتبكي، وخرج أبي من غرفته، قالت:
- ابنك عاد!
انتفخت أوداج أبي، وصرخ:
- ليس لي أبناء شياطين، ابني مات منذ عشرين سنة !. 
وقفتُ وهممتُ بالخروج، قصدتُ الباب، أعطيتهم ظهري، سمعتُ أمي تقول بصوت متهدج:
- إنه أخاك يا حبيبتي؛ متغيب منذ عشرين عام - ثم وجهت كلامها لي - سلم على أختك التي ولدت بعد رحيلك يا بني وبعدها غادر؟
واستدرتُ ياشيخ لأنظر لأختي، فإذا بها تلك الفتاة التي اغتصبتها أنا والمشوهان! ذُهِلْتُ؛ شعرتُ بأن روحي انفصلت عن جسدي، ثم عادت لجسدي مُبتلة بمياه شديدة البرودة وملبدة بالشوك، أما أختي فشعرتُ بصدمتها، وبخيبتها، وبألمها وقهرها، وصَرَخَتْ بأعلى صوتها مُرددة:
- إنه الذئب الذي اغتصبني! ليس أخي... ليس أخي! اقتله يا أبي؟ اقتل هذا النجس... اقتله؟
عندها ياشيخ شهقت أمي شهقة وكانت الأخيرة؛ ماتت من لحظتها، وهرع أبي تجاهي وجذبني من تلابيبي وبدأ بضربي قائلاً:
- أَنْتَ شيطان لابد أن تموت! الحياة حرام فيك!.
وبدأ بخنقي، فأخرجتُ مطواة وطعنته عدة طعنات حتى مات، تمتمتُ:
- لا يموت الإنسان مرتين، أما قلت أني ميت آنفاً؟!. 
سقطت أختي ترتجف وتهذي، اقتربتُ منها؛ عجزتُ للحظات؛ توقف عقلي؛ ماذا ينبغي أن أفعل؟ تساءلتُ، وفكرت في أن أُريحها وأُريح نفسي من العذاب والعار، لحظات وعادت لي قواي وإرادتي؛ ذبحتها، ثم ودعت جثثهم بنظرة خاوية من أي إحساس، نظرة بليدة، ثم هربتُ ثانية.
***
وقف الشيخ مفزوعاً يتأمله بتقزز، أشعل المجرم سيجارة ثالثة، قال:
- أما القضية التي حُكم بإعدامي فيها؛ فهي ذبح الأعور وذو الكف المبتورة وسط الشارع وأمام الناس بعد أن عثرت عليهما بصعوبة جزاء مكيدتهم.
قال الشيخ حانقاً:
- أَنْتَ شيطان بالفعل؛ صدق أباك!..
عبس وجه المجرم، وقال بصوت متهدج:
- أليست هناك ثمة توبة... لي ياشيخ؟.
همَّ الشيخ بمغادرته صوب الباب، قائلاً:
- هيهات يا عبد الشيطان.
وما إن استدار الشيخ وأعطاه ظهره؛ حتى اِنْقَضِّ عليه المجرم ومسك برأسه بين راحتيه وأداره يمنة وأعاده يسرة في حركة خاطفة صدرت عنها فرقعة، فسقط الشيخ لتوه جثة هامدة، وانتصب المجرم مقطباً، وبعينين حادتين تشعان غضب؛ ينظر إلى المجندان اللذان يقتربان منه مشهران سلاحهما صوبه، ثم ينظر إلى جثة الشيخ المسجاة أرضاً، متمتماً:
- أستغفر الله العظيم!
_________________
إحدى قصص المجموعة القصصية الإلكترونية: سقوط القاهرة.. 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق