تيَبْسَتْ الشمس في كبد السماء وأَبَتْ الغروب؛ تسمرتْ لتشاهد ما يحدث فوق تلك البقعة على سطح الأرض؛ صارت تُرسل إليها أشعتها الحارقة. بدأ أهل المدينة يهرعون في رعبٍ إلى الميدان الكبير؛ من خلفهم شاحنات رباعية الدفع وقد رُفِعَتْ عليها الرايات السوداء، واعتلاها رجالاً ضخاماً مدججين بالسلاح؛ ينادون على الناس عبر مكبرات الصوت، فصار الناس من كل حدب ينسلون..
اَلتف أهل المدينة حول الميدان؛ الرجال في المقدمة وقد اِكفهرتْ وجوههم، وارتدفتهم بعض النسوة وقد انتقبن وما ظهر منهن إلا عيوناً تلمع بالخوف.
اِكتمل الحضور؛ توَقَفَتْ السيارات؛ صمتت مكبرات الصوت، ساد الصمت المطبق بين الجميع..
فجأة؛ دلف إلى ساحة الميدان رجالاً مقيدو الأيدي خلف الظهور كأسرى حرب؛ معصومي الأعين؛ مطأطئي الرؤوس، يرفلون في بدلاتهم الحمراء. يستاقهم بعض من الرجال الملثمين؛ مرتدون بذلات عسكرية سوداء؛ بدوا طوال القامة، أقوياء البنية؛ بأحزمتهم أغماد بخناجرها؛ يطأون الأرض بكل ثقة وكبرياء.
انضم مسلحون كثر إلى الساحة؛ منهم من قام بتأمين الميدان، ومنهم من وقف ليشاهد في شغف!.
توقفوا جميعاً؛ إصطف الأسرى ركعاً ، ومن خلفهم الملثمين واقفين كالأعمدة الخرسانية؛ اقترب رجل ربعة تجاه الملثمين؛ يرتدي جلباباً أسوداً قصيراً، ذا لحية كثة ، يعصمُ رأسه بعمامة بيضاء، يتملكه الفخر والخيلاء، وبدا أنه قائدهم؛ توقف عند بداية الصفين؛ راح يحدج الحضور بعينين حادتين تشعان عظمة وقوة، ثم عاود النظر إلى الأسرى الركع المنكسرين أمامه؛ أشار إليهم بسبابته شامتاً وهز رأسه مبتسماً، وقال بصوت جهور:
- لقد ركعتم لي كما وعدتكم، وهذه نهاية من يتحداني؛ سأرسلكم بعد دقائق في رحلة إلى الجحيم ولكنها بلا عودة!.
واصل السير يتفقدهم واحداً تلو الآخر وتعلوا هامته ابتسامة نصر، وبعد أن انتهى من تفحصهم وتمحصهم توقف ثم أشار بيده تجاه الشاحنات خارج الميدان.
هرع إلى الساحة رجال مسرعين يحملون آلات التصوير ، واتخذوا مواضعهم أمام الركع ، وبدأوا في تشغيل آلاتهم لتصوير وتسجيل ما يحدث..
همسَ شيخ كبير من الحضور إلى رجل بجواره:
- محافظة الرقة لم تعد رقيقة !.
كان الرجل يتفرج في صمت، همس يجيبه:
- لقد سئمتُ والله ياشيخ، وثبطتْ عزيمتي ومللتُ من الحياة هنا ، و أريد الفرار؛ أريد أن أرحل خارج البلاد كلها ، وإن لم يكن غير الموت مخلصي من هنا فأنا أريده!.
- تريد ترك بلادك للأغراب كمن تركوها وهاجروا ليموتوا جراء صقيع المهجر ؟.
أطرق الرجل رأسه، همس:
- لقد قُتل أولادي وزوجتي على أيديهم، ودُمر بيتي بقصف طائرات الجيش!.
- ولماذا لم تمت أنت أيضاً؟ أكنت مختبئاً آنذاك؟.
أدمَعَتْ عينا الرجل، همس:
- كنتُ خائفاً من الموت وخائفاً على عائلتي من بعدي، وعندما علمتُ بقدومهم تركتُ عائلتي وذهبتُ إلى بيت صديق لي ، وعندما عدتُ وجدتهم قد فارقوا الحياة جميعاً، أنا جبان ، أنا جبان يا سيدي، كنت أظن أنهم عندما يجدون نساءً وأطفالاً سيتركونهم ولكن هيهات لحسن ظني!.
- هوِن عليك؟.
- لقد افتقدتُ عائلتي كثيراً، اشتقتُ إليهم؛ اشتقتُ لمداعبة صغاري ، اشتقتُ لأحضان زوجتي وابتسامتها التي غربت عني بلا شروق - ثم التفت إليه دامع العينين - سيدي لقد رحلوا عني ورحل معهم الأمان ورحلت الطمأنينة؛ رحل الدفء وبقيت أنا والجليد يلتحف قلبي ودربي، لقد توقَفَت حياتي ، أريد الذهاب إليهم؛ أريد اللحاق بهم حتى أعتذر لهم عن تقصيري في حقهم!.
- هم عند الرحمٰن، لا تقلق عليهم ، بل اِقلق على نفسك؟.
أغمض الرجل عينيه من شدة البكاء، صمت لحظات ثم همس:
- سيدي ، إنهم ينادوني الآن!.
ثم صمت ثانيةً فنظر إليه الشيخ شذراً، فأكمل هامساً:
- نعم ينادوني وأصواتهم تحيطني من كل صوب واتجاه!.
سأله الشيخ:
- أحقاً تريد اللحاق بهم ؟.
فتح الرجل عيناه الداميتان ونظر إلى الشيخ، هامساً:
- حقاً يا سيدي أريد الرحيل إليهم!.
ابتسم الشيخ وأدار جسده صوبه وأخرج في خفاء من جيب جلبابه قنبلة يدوية صغيرة، وهمس:
- هذه القنبلة كانت تأشيرة رحلتي إلى أحبابي بعد قليل ، ولكن مادُمت مُصِر على الرحيل الآن ، فلتحصل عليها ، ولتكن تأشيرتك لرحلة الخلود مع عائلتك، وأنا سأرجى رحلتي قليلاً.
ابتسم الرجل وهو غارق في دموعه؛ أخذها ووضعها بجيبه وهم بالذهاب؛ استوقفه الشيخ، همس:
- ليس الآن يا عزيزي انتظر حتى ننصرف وبعدها اقترب من إحدى تجمعات المسلحين وفجرها بينهم وانتقم لعائلتك وكن مطمئناً فإن لم تمت من رصاصهم؛ فستمت من الانفجار؟.
أشار القائد آمراً بالذبح؛ بعد أن ألقى كلمته أمام آلات التصوير؛ انبطح الأسرى أرضاً، وأخرج الملثمون الخناجر من أغمادها، وهرعوا بنحر الأسرى بقوة وسط صراخ وغرغرة واستغاثات من الضحايا حتى فارقوا الحياة جميعاً، وسالت دماؤهم أرضاً..
نادوا في الناس بالانصراف؛ بدأ أهل المدينة بالعودة إلى مساكنهم؛ متبلدي المشاعر؛ يتلكؤون الخطى بتقزز. اقترب الرجل من إحدى تجمعات المسلحين؛ سمع زوجته تناديه: «أسرع يا زوجي الحبيب؟»
ابتسم وصاح:
- أنا قادم!.
اقترب أكثر سمع أبناءه ينادونه: «أسرع يا أبي؟»
زاد حنينه إليهم أكثر فأكثر؛ أخرج القنبلة من جيبه؛ ركض صوب المسلحين؛ انتبهوا له، لكنه قاب قوسين أو أدنى؛ اقتلع فتيل القنبلة، ألقاها صوبهم، فتحوا عليه النيران؛ وسرعان ما التقى بعائلته وأصبحوا بين أحضانه بعد طول غياب!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق