«رمضان سلمي برقي»
«الغراب المسحور»
#قصةقصيرة
#قصة_قصيرة
#رمضان_سلمي
-------------------
لم أكن أصدق في السحر والشعوذة يوماً ما، لكن بعد ما حدث معي، تساءلتُ كثيراً، هل هذه المرأة ساحرة بالفعل؟ أم هناك لغز مُطلسم لابد من حله؟ لابد أن هناك لغز؛ هذا شيء غير طبيعي بالمرة؛ لا يوجد تفسير علمي لمثل هكذا حادثة... إذاً لابد أنه سحر!.
***
بدأت الحادثة حينما كنت أسكن في غرفة فوق سطح أحدى العمارات بأطراف القاهرة، ولمَّا تغيَّرت مواعيد عملي بمصنع الملابس الذي كنت أعمل به؛ أصبحتُ أستيقظُ في الساعة السادسة صباحاً، بعدما كنت أستيقظ في السابعة؛ وأصنع لنفسي كوباً من الشاي، وأُسخِن رغيفين من الخبز، وأُخرجُ من الثلاجة الصغيرة، قطعة جبن على طبق، وأخرجُ لآكلهم خارج الغرفة فوق السطح..
أول صباح يحدث فيه ماحدث، كان صباحاً هاديء، والشمس على وشك أن تُشرق من خلف الأبراج الخرسانية العالية البعيدة؛ جلستُ على الكرسي البلاستيكي، أمام المنضدة الخشبية - حيث وضعتُ طعامي - أتمطق الجبن وأُبلع بالشاي، وفي وجهتي عمارة ترتفع عن السطح - حيث أجلس - بثلاثة طوابق، كانت بيضاء اللون، وبواجهتها شرفات واسعة بدرابزونات حديدية، وكانت قِبلة واجهتها عن يميني مثل واجهة العمارة حيث أسكن..
كنتُ مُنهمكاً في إفطاري، وفجأة دوى صوت ارتطام شيء ربما كان حجراً بنافذة أو باب بالأعلى؛ رفعتُ بصري مفزوعاً، جُلت بعينيّ باحثاً عن مصدر الصوت، وتساءلتُ في نفسي: كيف لأي شخص أن يقذف حجراً ويصل إلى مسافة مابعد الطابق السابع؟!.
حطَّتْ نظراتي فوق غراب، كان واقفاً ينعق فوق درابزين شرفة إحدى شقق الطابق الثامن بالعمارة أمامي، وفجأة؛ حلَّق بعيداً، ثم عاد ثانية شاقاً الريح بسرعة شديدة، وارتطم بمنقاره وبجسمه ومخالبه بباب الشرفة! وقفتُ أشاهده مشدوهاً، وتمتمتُ:
- ماذا يفعل هذا المجنون؟!.
وظل يكرر فعلته حتى فُتح الباب، وخرجت امرأة بدا أنها في الأربعين من عُمرها، ترتدي ملابس نومها القصيرة، وشعرها منكوش، أشاحت له بيدها، وصاحت:
- اذهب؛ لقد ايقظتني؟!.
ثم دلفتْ المرأة إلى الداخل. وقف الغراب صامتاً فوق الدرابزين، وراح يتلفت حوله كالمجنون، وبعد لحظات حلق بعيداً واختفى خلف البنايات العالية، وقد أشرقت الشمس..
جلستُ حائراً، تدور برأسي شتى التأويلات لِما حدث أمام عينيّ، وتساءلتُ: هل كان يوقظها؟ ولكن كيف؟ ربما كان غراباً مدرب، ولكن هذا غير صحيح؛ لا توجد أغربة مُدربة، ربما مُصادفة لا أكثر!..
وأقسم لو أن أحداً ما - وقتذاك - كان قد حكاه لي وأغلظ الأيمان ما صدقته، ولكنه للأسف حدث أمامي، وليس مرة فحسب، ولكنه كان يحدث كل صباح، وفي نفس التوقيت، وبات جلياً أن الأمر ليس مُصادفة، حتى بات شغلي الشاغل، فك طلاسم هذا الحدث الغريب.
فكرت في زميل يعمل معي بالمصنع، كان يدَّعي أنه يمتلك المقدرة على فك طلاسم أي حوادث غريبة، أو خاصة بالعالم الآخر، وكنت دائماً أُكذِّبه وأتحداه، ولكن لا مفر من استشارته. ربما يستطيع حل اللغز!..
***
وذات يوم؛ في استراحة الغداء، جلست معه؛ كان شاباً نحيل الجسم، غليظ الرأس، ذو عينين واسعتين مخيفتين بعض الشيء. وبعد أن أكلنا، حكيتُ له ماحدث، فوجدتُ عينيه جحظتا واتسعتا بطريقة مُريبة مُقلقة، رغم اتساعهما الطبيعي المُخيف، وصمت قليلاً، ثم غمغم مع نفسه بعض الوقت، وبعد دقيقة؛ انبسطت أساريره، قال لي بلهجة مُلتحفة بثقة وخبرة وتمرس:
- الملعونة... ثم صمت هازاً رأسه يمنة ويسرة، ناظراً في اتجاه آخر، وكأنه كان يخاطب شخصاً آخر يجلس معنا، ولا يظهر!.
- من تقصد؟.
سألته، توقف عن هز رأسه، نظر إليّ، قال بلهجة تشي بالعطف:
- خائف عليك يازميل من تلك المرأة، لربما تُسحِرك مثلما سحرت الغراب، لتذهب كل صباح وتضغط الجرس لتوقظها، أو تجعلك تُحضر لها الخُضر والفاكهة من السوق!.
- هل لك أن توضح أكثر؟!.
- تلك المرأة ساحرة يا زميل، والغراب مسحور بتعويذة طاعة ألقتها عليه، ليوقظها كل صباح!.
ضحكتُ وقلت له:
- ولم أرهقت نفسها، وألقتْ تعويذاتها على غراب مسكين، وهي باستطاعتها أن تضبط منبه الهاتف، أو تشتري مُنبه؟!.
- عزيزي؛ هذه الأمور لا ينبغي أن تُعمل عقلك فيها، وإن كنت تحسب نفسك عاقلاً فلم أتيت طالباً مساعدتي؟ لماذا لم تُرغم عقلك على إيجاد تفسير يا ذكي؟!.
طأطأتُ رأسي خجلاً، ثم قلت مستسلماً:
- أعرف أن هُناك أمور عصيَّة عن العقل ومُستعصيَّة عن الفهم، مثل ذلك الحدث الغريب، لذا جئتك لعلي أجد ضالتي... والحقيقة فقد بدأتُ أصدقُ ماتقوله!.
ابتسم بانتصار؛ نظر حوله وكأنه يخشى أن يسمعه أحد من الزملاء المُنتشرين من حولنا يتناولون طعامهم فوق الموائد، ثم قرَّب رأسه مني قائلاً:
- أتعرف؛ ربما كان هذا الغراب جني مُتجسد في هيئة غراب، وهو عاشق وله لها، ولكنها تُعذبه، أو تختبره، وقريباً سترضى عنه، ولكني لستُ متأكداً من هذه النقطة بعد؛ إذ لابد لي أن أعاين مسرح الأحداث بنفسي، وأشاهد الغراب بأم عيني.
- ماذا تقصد؟.
- أبات عندك الليلة؟.
***
ليتني لم أُخبره، ليتني ماطلبتُ مساعدته؛ لم أنم طوال الليل من الرعب والقلق؛ إذ كان دائم الغمغمة مع نفسه، وفي وهيد الليل أجده يُخاطب كائنات لا تظهر، ويضحكونه تارة، ويتشاجرون معه تارة، ويصمت تارة، ويصرخ تارة، حتى كدتُ أن أُجن..
شعرتُ بأن الغرفة سُكنت بأشخاص من العالم الآخر، ليلتئذ؛ تركته ينم على السرير، واستلقيت على السجادة أرضاً، حتى كلَّت مني الضلوع، وتشبعت مفاصلي من ثلاجة البلاط، وكل ذلك من أجل فك الطلسم، وحل اللغز..
منذ الساعة الخامسة صباحاً؛ جلسنا فوق الكنبة بجوار بعضنا البعض، خارج الغرفة، وفي وجهتنا الشقة إياها؛ صامتين، مشدوهين، منتظرين قدوم الغراب المسحور، أو ربما الجني العاشق المتجسد..
وفجأة؛ وصل الغراب، وحط فوق الدرابزين، ولم يهجم على الباب كالعادة، إنما ظل يحدج الباب في صمت، ثم ينظر إلينا في صمت أيضاً وكأنه تفاجأ بنا..
وقف صديقي واقترب من سور السطح ليتأمل المشهد عن قرب، وكان تارة يزر عينيه، وتارة يوسعهما، وتارة يُغمغم مع نفسه. نعق الغراب عدة نعقات ثم حلَّق بعيداً..
- لقد خاف مني ذلك الجني العاشق المُتجسد في هيئة غراب!.
أخيراً؛ نطق بها زميلي بعد طول تأمل وانتظار، مُقرراً كنه ذلك الغراب. دلفتُ صوبه، وقفنا بجوار بعضنا البعض، وكنت أرتجف مما حدث.
لقد خاف منه الجني! لا أُصدق أني رأيتُ جنيَّاً مُتجسداً، كنت أشعر وقتذاك بأني سأتبول على ثيابي، ولكني تماسكتُ أمام زميلي حتى لا يفضحني بين زملائي بالعمل..
سمعنا صرير باب الشرفة، نظرنا سوياً، خرج زوج المرأة بمنامته البيضاء يتمطى، بدا رجلاً في العقد الرابع من عمره؛ نظر في كل الاتجاهات ثم ضحك، وهمّ أن يدخل لولا أن رآنا واقفين نراقبه. تلك هي اللحظة الحاسمة للتبول على الثياب من شدة الإحراج..
لكنه ضحك في وجهينا، ثم صاح:
- هل رأيتم ذلك الغراب المُتخلف؟ مؤكد هو الذي أيقظكم مبكراً، مُزعج أنا أعرف، كذلك هو لنا، غراب غبي؛ بل أغبى غراب رأيته في حياتي؛ بيد أنني لم أقابل أغربة كثيرة في حياتي - كان يديه تتنافس مع لسانه للتوضيح والوصف - كل يوم يا شباب يأتي في نفس التوقيت صباحاً ليُهاجم انعكاس صورته على زجاج باب الشرفة العاكس كالمرآة، حتى نستيقظ على ضجته، فنفتح الباب فيرحل - ثم ضحك لمدة دقيقة - أما اليوم فقد بدلنا الأمس بالزجاج باباً خشبياً، لذلك لا أظن أنه سيزعجكم أو يُزعجنا مرة ثانية لأنه سيُحرم من رؤية إنعكاس صورته للأبد... صباحكم سعيد..
ثم عاد لضحكه، ودخل الشقة!.
الحقيقة لم أتمالك نفسي وقتذاك، ونتيجة لحنقي، وغيظي، وانفعالي، تهورتُ على الزميل، وكانت النتيجة أنه حصل على أجازة مرضية لمدة شهر، ليحاول مُعالجة بعض ما أُصيب به من كسور وجروح ورضوض وكدمات!..
***
كل هذا ليس غريباً، إنما الغريب ما بات يحدث معي منذ ثلاثة أيام فقط؛ كل يوم الساعة السابعة مساءً، أجدني ذاهب إلى سوق الخضروات والفاكهة، وأشترى أوزاناً مُعيَّنة، وأعرج على البقال، وأشتري كميات مُعيّنة من المواد الغذائية أيضاً، ثم أجدني متوجه كالمنوّم إلى العمارة إياها، وأستقل المصعد الكهربائي إلى الشقة إياها بالطابق الثامن، وأضغط الجرس، فتخرج لي المرأة إياها، وتأخذ مني الأشياء، وتبتسم في وجهي، وتعطيني ثمنها، ثم أجد نفسي مُستديراً وعائداً إلى غرفتي إياها في صمت وبله غريبين!..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق