ﺧﻴﺎﻝ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ | قصة قصيرة لرمضان سلمي - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

اعلان 728X90

السبت، 17 أكتوبر 2015

ﺧﻴﺎﻝ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ | قصة قصيرة لرمضان سلمي



استيقظتُ مبكراً؛ أزحتُ الستائر البنية المزركشة، فتحتُ باب الشرفة لأتأمل أروع منظر للحقول الخضراء وأكمة النخيل السامق الغارقة بالضباب المتناثر بالقرية..
كنتُ أثناء دراستي؛ ومتى مللتُ من المدينة الصاخبة المزدحمة؛ سارعتُ بأخذ العطلة والسفر إلى قريتي ”عرب مطير“ الواقعة بأسيوط؛ كي أستمتع بالهدوء والتأمل، واللون الأخضر ، الذي أعشقه، وموقن بأنه من ألوان الجنة.
أيقظني من تأملاتي صوت قادم من بعيد؛ إنها أمي تنادني من المطبخ لأتناول فطوري؛ ذهبتُ فوجدتُ الطبلية قد وضِعَتْ أرضاً في باحة البيت؛ وكان أخوتي في سفرهم وأعمالهم، وكانا أبي وأمي هما اللذان يؤنسان وحشة البيت؛ صحتُ بلهجتي الممتزجة بقدر ضئيل من لهجة الجنوب وقدر كبير من اللهجة البدوية، والتي اشتقتُ لها كثيراً قلت :
- وين راح أبويا يامه ؟.
صدح صوتها قادماً من المطبخ، قالت:
- أبوك راح ”سوق السبت“ في العرب، عشان يشتري اللَّحَم والبصل ويتْسوق!.
- يبقى فيها تقلية الليلة عاد... مِتى مشى يمه ؟.
- قبل ساعة ياولدي... في تقلية أكيد أومال اهواه!.
- الله يعطيكم الصحة والعافية.
وجدتُ إفطاري المفضل؛ الفطير الأبيض المفتوت بالصحن والغارق باللبن والسمن معاً، وبعد أن غططتُ بالصحن غطاً، وبعد أن انتهيتُ من الإفطار؛ أخذتُ قدحاً من الشاي المغلي ونزلتُ لأحتسيه بالحديقة الصغيرة في مدخل البيت؛ خلعتُ خُفي؛ جلستُ بجلبابي الأبيض الفضفاض على المصطبة،  ألصقتُ ظهري إلى الجدار وتربعتُ؛ ومن
أمامي عيدان الريحان؛ تتحلق شجرة النبق المورفة، ورحتُ أرتشف الشاي وأسترجع ذكرياتي المنقضية بقريتي..
***
تذكرتُ الأيام الخوالي، وتذكرتُ تلك الفتاة الصغيرة التى لم تتعد الأربعة عشر عاماً وقتذاك؛ ابنة أحد جيراننا بالقرية؛ كانت في غاية الجمال؛ حباها الله عينين عسليتين ضيقتين وأنف صغير وشفتان عنابيتين، ووجه أبيض كومثري يشع بالحياء والخجل..
كانت تصغرني بعدة أعوام، وكانت في بدايات سن النضوج؛ وكنتُ إذا ما ذهبتُ إلى حقلنا البعيد عن الدار بعدة أميال، حتى رأيتها في طريقي..
ذات مرة؛ كانت جالسة تحت النبقة مع أخيها الصغير بأطراف حقل قمحهم؛ مرتدية جلباباً أسوداً، ملفوفة الجسم، متوسطة الطول، تلف رأسها بشال أزرق.
لاحظتُ أنها تختلس النظرات لي ، فبادلتها  الاختلاس على مضض وكلي خجل؛ ولكنها سرعان ما أدارت وجهها، وتزيت ملامحها بالحياء الممزوج بكبرياء وتذمر! ابتسمتُ وتعجبتُ، تساءلتُ: « كيف يتذمرن الجميلات ؟ لماذا تنظر إليَّ  مادامت تتذمر ؟ ولم الخجل والكبرياء ؟.»
وما أن ابتعدتُ عنها ، وتماديتُ في طريقي الترابي المتراصة على جانبيه أشجار النخيل والنبق؛ إلا وأحسستُ أنها تنظر لي ثانية؛ فباغتها بنظرة إلى الخلف؛ فاكتشفتُ بأنها حقاً كانت تتابعني بعيناها وسرعان ما عادت لتذمرها وخجلها، ضحكتُ وشققتُ طريقي إلى الحقل..
وأضحك أيضاً كلما تذكرتُ ذلك اليوم؛ كنت عائداً من السوق، وعندما ركبتُ السيارة فوجئتُ بالصغيرة ذاتها بالسيارة أيضاً؛ كانت مرتديةً جلبابها الأسود، وتلف على رأسها شال أحمر. جلستُ وكانت أمامي - السيارة عبارة عن لوحين خشبيين متقابلين - وبجوارها فتاة يافعة متشحة بالسواد لا تبين منها سوى عينان؛ تحمل فوق حجرها قفة بها خضروات وفاكهة.
انطلقتْ السيارة؛ ابتسمَتْ لي الصغيرة بهدوء، وراحت تداعبني بعيناها العسليتين الضيقتين بنظرات ملؤها الاهتمام والشغف؛ جعلتني أرتجفُ وأشعر بالخجل؛ حقيقة أنا أخجل إذا ما نظرَت لي إحداهن! ولكن نظراتها استثارت نبضات قلبي فاضطربتْ. اختلستُ نظرة عفوية لتلك الفتاة اليافعة والجالسة بجوارها؛ عندها أحسستُ بأن صغيرتي بدأت تغار عليَّ، وأنتهت فوراً من مداعبة العيون، وبدأت في جَلدي بأقوى النظرات الحادة تارة لي وتارة للفتاة اليافعة بجوارها، وسط استغراب بعض النسوة والرجال بالسيارة ممن لاحظوا حديث العيون البادئ تواً.
تأكدتُ إذَّاك؛ أنه كان عقاباً لي جزاء اختلاسي نظرة لفتاة غيرها!.
بعد عودتي إلى البيت؛ تساءلتُ كثيراً: «هل وقعت الصغيرة في حبي؟ أم يخيل لي ؟ ولكنها صغيرة ومراهقة؛ لا تعرف معنى الحب! ولكن ما معنى الحب؟ وهل أعلم أنا معنى الحب؟ إذاً لم النظرات ولم الغيرة ؟ لربما وقعتْ في حبي وهي لا تدرك أن هذا هو الحب ؟.»
وقتئذ؛ بدأت أشعر بدقات قلبي تتسارع؛ دقة تلو الأخرى، أحسستُ لوهلة أن أجمل ما هنالك؛ سواء أكان حب أو إعجاب أو أي شيء آخر؛ أن بالأمر فتاة جميلة تهتم لأمري فحسب..
وفكرتُ: « ماذا لو كبرت وصارت عروس وما زالت تحتفظ بأحاسيسها تجاهي؟ هل وقتها سأبادلها نفس المشاعر؟ ربما تزوجنا؟ أجل؛ إن الفتيات هنا تكبر بسرعة، وتتزوج أسرع! غريبة ! ماذا حدث لي؟ لكن سرعان ما استطردتُ أفكاري؛ تذكرتُ أني لستُ جاهزاً للزواج؛ أنا مازلتُ أدرس وبسنواتي الأولى بالجامعة!.»
ومن وقتها وبدأ عقلي وقلبي يسبحان إلى المستقبل وينسجان قصصاً للحب بطليها أنا وصغيرتي التي كبرَتْ فقط في خيالي؛ ومعها في الخيال كنت أحيا ما في الحياة محال، ولمّا أزحت ستائر الحاضر، وفتحتُ شرفتي على المستقبل ، ونظرتُ به؛ رأيتها محبوبتي، ومرت الأيام والسنين ، وكان طيفها يزورني من المستقبل البعيد؛ يمكثُ معي للحظات كانت أجمل اللحظات بحياتي؛ كنت أنام على الوسادة، وما إن أُغمِضُ عيناي حتى تصبح معي، نتحدث، نتعانق، نركض خلف بعضنا البعض بين حقول القمح، أنام على حجرها؛ تُمَسِّدُ لي شعري، وتقبلني على جبيني، أشير إلى شفتاي؛ تفذ عني وتهرب ضاحكة، ويتردد صدى ضحكتها بأرجاء القرية..
كانت زياراتي لقريتي قليلة جداً وسريعة، وما عدتُ أرى الساحرة الصغيرة، حاولتُ أن أسأل عنها لأطمئن أنها بخير، فعلمتُ أنها حُجبت واحتجبتْ بالبيت لأنها نضجَت واكتملت أنوثتها!.
عُدت في عطلة أواخر الشتاء الماضي؛ اقتربتُ من بيتنا؛ تناهى إلى سمعي درداب طبل متقطع، وزغاريد تنطلق من الحين إلى الآخر، وأهازيج تصدح بأصوات فتيات تتخللها ضحكاتهن التي تنقشع بها وحشة الليل وبرودته، وتصفيق حار مصاحباً لكل ما سبق.
توقفتُ لأنصت ولم أدخل بيتنا بعد. تقهقرتُ إلى الطريق الترابي المضاء بأنوار واهنة، بدأتُ أدلف باتجاه الأهازيج، ومنازل الطوب اللبن والآجر عن يميني وعن شمالي راقدة في ثبات سرمدي، وكلما اقتربتُ انقبض قلبي، وشعرتُ بخوف من مجهول ما!.
- ماهذا ... لا أصدق ... إن الحفل
في دار محبوبتي الصغيرة!.
تمتمتُ بها من هول المفاجأة، أحسستُ وقتها أن هناك حُلماً من أحلامي يصارع الموت، ولكن مايزال هناك ثمة أمل. استوقفتني بالطريق إحدى السيدات الطاعنات في السن بالقرية وسلمَتْ علي، قالت:
- لقد تم خطبة فلانة بنت فلان - صغيرتي - والعقبى لك!.
صُدمت؛ أصبحتُ أشعر بأنني لا أشعر بأي شعور قد شعرتُ به من قبل؛ تغلب الموت وقتل أكبر وأجمل أحلامي!. شكرتها؛ عدتُ إلى البيت، وقفتُ أمام شرفتي؛ أزحتُ ستائر الماضي والحاضر، نظرتُ إلى مستقبلي؛ لم أجدها به، ولم أر شيئاً سوى ظلام متراكب؛ أطرقتُ رأسي دامعاً..

- ما رضيت أصحيك الصبح بدري!.
أفقتُ من شرودي على صوت أبي الذي قد عاد لتوه من السوق، قلت:
- والله ما قصرتْ يا يِبىٰ!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق