في محطة مصر؛ ظهر من بوابة الدخول؛ رجل في العقد الثالث من العمر؛ يرتدي جلباباً رمادياً مهلهلاً، وبلحية كثة، وشعر جعد، وبشرة سمراء.
يصطحب زوجته؛ التي بدت امرأة أربعينية هزيلة الجسم، قمحية البشرة، موشحة بالسواد، تتعكز عليه، ويسيران ببطء، ترمقه بنظرات مستكينة من فينة لأخرى. قالت بصوت منهك:
- أين سنذهب الآن وأين القطار ؟.
- سنذهب إلى ”رصيف ١١“ وسننتظر قطار الثانية عشر صباحاً، فقد قارب على الوصول، لا تقلقِ يا ”غالية“ إن شاء الله ستشفين، وستزول آلامكِ وآثار العملية الجراحية قريباً!.
- إن شاء الله يا ”صابر“ ولكني متعبةً جداً.
- سلامتكِ يا غالية... خيراً إن شاء الله، هيا اسندي علي واستمري بالسير ؟.
هبطا سلم نفق المشاة، وخرجا بآخره، دلفا إلى طوار الرصيف. راح صابر يشق لها طريق بين الزحام، أجلسها على أحد مقاعد الرصيف بجوار بعض النسوة وانتصب بجوارها. مر الوقت وقد تأخر القطار عن موعده! وبعد نصف الساعة؛ صدحت مكبرات الصوت تبشر بقدوم ”القطار ١٥٢“ المتجه إلى أسوان..
دخل القطار الى المحطة مصحوباً بجلبة أبواقه المزعجة، فهرول الجميع ، وقفتْ الزوجة، انقض الجميع على عربات القطار ، ساد الهرج والمرج ، بدأت المشاجرات على المقاعد الشاغرة ، علتْ الأصوات بالسباب والصراخ داخل القطار..
نظر صابر إلى المشهد الدامي، ثم نظر إلى زوجتة الضعيفة، وتساءل: «كيف سأقتنصُ مقعدين أومقعد من بين المتناحرين؟ دنَتْ غالية من صابر؛ مسكت يده بكلتا يديها، همست:
- الألم شديد وموضع العملية الجراحية يؤلمني ولن أستطيع الانتظار أكثر!.
ثم ألقت برأسها على كتفه وطفرت دموعها. غضب الزوج، تأملها شافقاً، قال:
- سامحيني ياغالية؛ ما باليد حيلة! ولا أملكُ أموالاً كافية لنستقل حافلة، أنتِ تعلمين؛ أننا بعنا كل مالدينا بل واقترضنا من أجل العملية الجراحية؛ حتى تشفي وتعودي لسابق عهدكِ وتبقين لي ولأطفالكِ، فلو لم نقم بإجرائها لكنا افتقدناك - لا قدر ا لله- وأنتِ تعلمين جيداً أنني وأولادكِ لن نستطع العيش بدونكِ!.
ازدادت دموعها وعلا نحيبها؛ وضع يده على خدها واستدار وقبلها على جبينها، فجأة؛ انطلق تنبيه القطار لينذر باقتراب الرحيل ، أفاق الزوج لينظر حوله؛ إذا بالرصيف قد خلا من المسافرين واكتظ بهم القطار، قال:
- لقد امتلأ القطار تعالي لنبحث عن ثغرة، داخل العربات الأخيرة؟.
وبدأ البحث وكلما دخل عربة لم يجد بها متنفساً، حتى وصلا آخر عربة بالقطار ، وقد انتابهما الملل وفقدا الأمل في أن يستريحا من عناء هذه الليلة الليلاء، ولكن العربة الأخيرة لم تكن مزدحمة كثيراً فدخلاها معاً..
بدأ الزوج باستجداء المسافرين من الشباب أن يهبونه ولو مقعداً لزوجته المريضة، فأشاحوا وجوههم عنه في صمت وتجاهلوه.
وفجأة؛ وقفا شابان مهندمان وابتسما في وجهيهما، وأمروهما أن يجلسا بمقعديهما، قال أحدهم:
- لقد ألغينا سفرنا بالقطار سوف نستقل الحافلة! وهنيئا لكما المقعدين، وشفاكِ الله ياأختنا.
اغتبطا الزوجين، ودعيا للشابين، وانطلق القطار إلى الجنوب في جلبة من أزيز مكابحه وصرير دواليبه، وبعد دقائق قِيدت الإضاءة بوهن من السقف..
بعد مرور ساعتين من الزمن؛ مر بائعاً للأطعمة ذو بنية ضخمة وملامح حادة وصوت أجش مخيف، يحمل على كتفه زنبيل ضخم، استوقفه صابر، قال:
- بكم رغيف البيض ؟.
- بجنيهان ونصف ياأخينا .
- أعطني رغيفين ؟.
قاطعته غالية، همست:
- لا أريد طعاماً!.
- لماذا يا حبيبتي!؟
- أشعر بالقئ !.
- سلامتكِ ياغالية، مؤكد هو مفعول المخدر لم ينضب من جسمكِ بعد!.
قال البائع حانقاً:
- هل ستنتهون من وصلة الغزل أم أنكشح إلى رزقي ؟.
قال صابر:
- أعتذر منك أخينا فهي مازالت تعاني آلام العملية الجراحية و...
قاطعه البائع، قال ضجراً:
- وأنا مال أهلي بعمليتها، انجز؟ ماذا تريد ياأخينا ؟.
- إجعله رغيفاً واحداً ولا تنس وضع الكمون ؟.
أنزل البائع الزنبيل أرضاً، حدج صابر مكشراً عن أنيابه ثم نهره قائلاً:
- هل ستضع شروطك أيها الجربوع ؟ ما سأعطيكه تأكله وتحمد ربك ، فأنت لا تأكله في بيتك أصلاً؟.
شعر صابر بالخوف من هذا العنفواني وآثر ألا يضايقه حتى يذهب بسلام ، وحصل على الرغيف ودفع خمسة جنيهات فهذا طلب البائع المتغطرس وإلا سيبرحه ضرباً هو وزمرة البائعين.
أكل الرغيف، وبعد دقائق؛ نامت غالية من شدة الإرهاق على كتفه، نظر لها صابر في ألم، ثم باسها على جبينها، وفجأة؛ توقف القطار بمنطقة مظلمة؛ لا توجد بها محطات أو يقطعها مزلقان. أحس صابر بمغص حاد في معدته؛ آثر ألا يوقظها وأسند رأسها إلى المقعد لتكمل نومها، وفذ عنها ليبحث عن مرحاض بعربات القطار الأمامية..
تقدم بعربات القطار، وكلما فتح باب مرحاض؛ وجد به مسافرين، راح يخترق العربات إلى الأمام، وقد ازداد المغص وطرقات القطار مكدسة بالمسافرين؛ حتى وجد مرحاضاً شاغراً، فسارع بالدخول إليه..
بعد دقائق من دخوله؛ سمع صوت ارتطام شديد مصاحباً لهزة عنيفة حركت القطار إلى الأمام، وانفجرت بعدها الصرخات!. شعر صابر بالخوف؛ نهض، حاول فتح الباب؛ لم يستطع بسبب الزحام أمام الباب. نظر من النافذة وجدهم ينزلون ركضاً من القطار، بدأ يصرخ دون فائدة.
مر الوقت قام بفتح الباب فاستجاب. خرج فوجد الركاب قد نزلوا؛ ارتعد خوفاً وشعر بالقلق الشديد على زوجته. نزل من القطار وبدأ بالركض صوب عربات القطار الأخيرة؛ مقبوض القلب؛ حائر الفكر، والناس من حوله كأشباح بالظلام. ظل يركض، يلهث، يردد:
- يارب ...يارب !.
وصل صابر إلى نهاية القطار؛ شخص بصره؛ وجد آخر عرباته محطمة وملقاة على جانبي القضبان، ومشتعلة بها النار، وقد اصطدم بها قطاراً آخر كان قادماً على نفس الشريط!.
خر على ركبتيه أرضاً؛ نطق بصوت محشرج:
- إنا لله وإنا إليه راجعون!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق