شاب؛ يجلس متفكراً ومتأملاً فيما حوله، فوق مصطبة منحوتة من الصخر؛ وثيرة على شاطئ حصباءه من اللؤلؤ، لنهر لألاء الماء عذب رقراق، ومن حوله الزعفران باثق والريحان يعبق الهواء بعرفه، وغير بعيد وعلى الشاطئ الآخر انتصبت قصوراً عظيمةً تحيطها الحدائق الغناءة والأجمة الخضراء، والأشجار السامقة التي لا تبين لارتفاعاتها نهاية، وتصدر منها ضحكات عذبةً مختلطة لرجال ونساء بدا أنهم في السعادة من نهاية..
من مقربة؛ بدا الشاب أنه في العقد الثالث من عمره؛ أمرد الوجه وريانه، سبط الشعر وأسوده، مرتدياً ثوباً من حرير سندسي أخضر، ومزركش بخطوط ذهبية، محلى المعصمين بأساور من ذهب وفضة..
يخيم ظِلاً ناعماً ومنيراً على كل الأشياء من حوله..
فجأة؛ صَدَحَ - خلف الشاب - صوتاً نسائياً رقيقاً آسراً، كأنه تغريدة كروان أو عندلة عندليب أو زقزقة عصفور، قالت:
- حبيبي ؟.
استدار الشاب ونظر خلفه وابتسامة عريضة محتلة كامل تقاسيم وجهه؛ فتجَلَتْ أمامه امرأة فارعة الطول، تدلف صوبه من قصر قريب عظيم البنيان ومن حولها الزهور بألوانها المختلفة مبثوثة، والفراشات البديعة الألوان تحوم بالأفق في بهجة ربيعية.
اقتربت، فتبَدَتْ امرأة بالعقد الثالث من عمرها، وضاءة الوجه، واسعة العينين سوداواتهما، أسيلة الخدان، حمراء الشفتان، شعرها ذهبي ناعم مرسل حتى كعبيها، ممشوقة القد، كاعبة النهد، تَرَفَّلُ في فستان أبيض حريري ملتف حول خصرها الدقيق، موشى باللؤلؤ، شذاها مسكاً تنثره بالأفق من حولها، تَلِفُها هالة من نور، تمسكُ بيديها كأسين بلوريين، ملؤهما الخمر الأحمر، وتعلوها ابتسامة آسرة سافرة عن أسنان عاجية براقة..
وقف الشاب، فبدا وافر الطول والامتلاء، اقتربت منه ولثمته من شفتيه، ثم أخذ كأساً وجلس فوق المصطبة، وجَلسَتْ بجواره. ارتشف جرعة وتمطقها قائلاً:
- الحمد لله - ثم نظر إليها - أشكركِ زوجتي الجميلة؟.
اِبْتَسَمَتْ حور العين قائلة:
- لا شكر بجنة الخلد يازوجي الحبيب، لقد خلقنا الله لكم أنتم عباد الله المؤمنين جزاءً لكم، ورهن إشارتكم!.
ثم اِرْتَشَفَتْ من كأسها جرعة ووضعته بجوارها ومالت على صدره وطوقته بذراعها، فراح الشاب يداعب خصلات شعرها المتدلية على جبينها الرقراق، وبعد لحظات انفكت عنه، وهَمَسَتْ بعذوبة قائلة:
- اِحكِ لي عن عَمَلُك الذي أتى بك إلى الجنة؟.
نظر لها الشاب وابتسم ثم قال:
- الخلود !.
ابتسمت حور العين، وأصغت السمع، فأكمل قائلاً:
- كنت شاباً رقيق الحال من أسرة فقيرة، أبي وافته المنية لما كان عمري خمسة عشر عاماً، وكان لي أختين، أصغر مني سناً، فاضطررتُ أن أعمل وأكد حتى أزوجهما، ولم أكترث لأمر زواجي، وبعد زواجهما بعشرة أعوام وفرت مالا لا بأس به، يكفي لزواجي، وكنت آنذاك قد اجتزت الأربعين سنة من عمري، فسألتُ نفسي: أأتزوج الآن ؟. قالت لي أمي ذات صباح وأنا ذاهب إلى العمل:
- وجدتُ لك بنت الحلال وبعد عودتك سنذهب معاً لنخطبها؟.
فرحتُ كثيراً، ذهبتُ إلى العمل وقلبي مشغول؛ أخيراً سأتزوج بعد سني الشقاء...
قاطعته حور العين سائلة:
- ماذا كنت تعمل؟.
- عامل على باب الله؛ أمر بالأسواق ومعي عدتي، وأجلس على الأرصفة بانتظار رزق الرزاق.
- أكمِل؟.
- انتهى اليوم وقد رزقني الله، عُدْتُ إلى البيت، فلم أجد أمي، تَنَاهَتْ إلى أذني جلبة بالعمارة التي نسكن بطابقها الثاني، هرعتُ إلى السلم أرتقيه، فوجدت مصدر الجلبة شقة جارتنا ذات الخمسين عام، والتي مات زوجها منذ سنون، وترك لها أربعة أطفال أيتام في رقبتها، ولم يترك لها سواهم، وما من مصدر رزق سوى بيع الملابس التي تشتريها الأم من بعض المصانع للجيران بالتقسيط والنسيئة.
دخلتُ الشقة، وجدتُ أمي وبعض النسوة من الجيران كلهن في الحزن من نهاية، وعرفتُ منهن أن أم الأيتام مريضة بمرض خبيث، ولابد لها من عملية جراحية وإلا ماتت.
لم أنم تلك الليلة، من التفكير في حال أم الأيتام تلك، وحال أطفالها إن مسها سوء لا قدر الله!.
- ألم تنم بعد؟ لقد اعتذرتُ لصديقتي عن عدم ذهابنا اليهم وحكيت لها عن مرض جارتنا؟!.
قالتها لي أمي، بعدما دَخَلَتْ غرفتي وقد أحضَرَتْ لي كوباً من الشاي، وبعدما استويتُ جالساً، قلت:
- تشغلني أم الأيتام يا أماه !.
جلست أمي بجواري، زَفَرَتْ ثم قالت:
- القضاء ما منه مفر يا بني.
- لكن الأيتام ما ذنبهم أن يهلكوا من بعدها؟.
- حتما لربك حكمة؛ لاتضجر؟.
- أفكر في أن أُساعدها، وألتمسُ العوض من الله!.
- كيَّفَ تساعدها؟ إن عمليتها لا يكفها كل ماجمعت بالسنين العجاف، غير أن قضاء الله نافذ، أما أَنْتَ يابني فلابد لك من أن تتزوج وأفرحُ بك قبل رحيلي !.
- بارك الله لنا في عمرك وأطاله يا أماه..
تركتني أمي، وأنا غارق في غياهب التفكير وفي نتائج تضحيتي تلك، فقارنتُ بين النتائج الدنيوية، والنتائج الأخروية، فَرَجَحَتْ كفة الأخروية، فكرتُ في الخلود... أجل الخلود، وفكرتُ إن آثرت نفسي وتزوجتُ بالمال فكم عاماً سأقضي متزوجاً مهما طال العمر أوقصُر؟ ولكن إن ادَّخر لي الله جزاءً لفعلي الخير ابتغاء وجهه؛ زوجة من حور العين بالجنة فكم عاماً سأقضيه معها؟ لا عدد، لا محدود، لانهاية، هو الخلود ثم الخلود.
حينئذ؛ قَرَرْتُ؛ وأخفيتُ عن أمي الأمر، وابْتَلَعَتْ تكاليف عملية أم الأيتام كل ما جمعتُ بسنيني العجاف، وكنت سعيداً؛ راض النفس، ولكن قضاء الله لا راد له، وماتت أم الأيتام في غرفة العمليات، ولما عَرَفَتْ أمي بالأمر، قالت لي:
- لقد قلتُ لك أن قضاء الله ما منه مفر يابني، انظر الآن ماذا أنابك، خسرت أموالك، وحدث ماحدث!.
- يا أمي أنا راضٍ لست ساخطاً وأحمدُ الله على عاقبة أمري، ولن أفكر بالزواج أبداً في هذه الدنيا، فحسبي جزاء ربي بالآخرة.
ومن بعد وفاة أم الأيتام، تكفلتُ بأطفالها، واعتبرتهم أولاداً لي، وغططتُ في العمل حتى أذناي، لتوفير المال لطعامهم وملبَسهم وتعليمهم، وبعد مرور السنين، ووفاة أمي، كبرتُ بالسن وخارت قواي، لكن بعد أن شبَّ الأطفال وأصبحوا رجالاً يعتمدون على أنفسهم، ومرضتُ بنفس مرض أم الأيتام الخبيث، لكني لم أخبر أحداً، حتى وافتني المنية، وتغمدني الله برحمته، وأصبحتُ معكم الآن وعوضني الله عن الزوجة بثلاثة... وبالخلود.
صَدَحَتْ ضحكات وأغنوجات ساحرة أمام القصر، اِلتَفَتَتَ الحورية خلفها وتبسمَتْ ثم قالت:
- وها هما قادمتان؛ زوجتك الثانية من حور العين، وزوجتك البشرية التي تزوجتها بالجنة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق