كذلك كانت تتراقص ضربات قلبي، وتتماوج بالغرفة ذات الجدران الطينية المُملّطة بالطَّفْل الأصفر، وسقفها الواطيء، وحِزَم بوصه التي اِسودَّتْ من قِدَمِها، وتَدلَّتْ بعض عيدانها التي دثرتها خيوط العنكبوت، وأنا واقفاً بانتظارها، أن تخرج من دهاليز دارها العتيق..
كنتُ قد طرقتُ الباب الخشبي القصير، المُتباعدة ألواحه التي نخرها السوس، عن بعضها البعض، وشعرتُ لوهلة أنه سيخر أمامي كومة من الخشب، رغم أني كنت طفلاً بالسابعة من عمري آنذاك، وليست بكفي عافية لإردائه أرضاً، ولكنه كان يهتز جراء طرقاتي، ويتخلخل..
وقتئذ؛ سمعتُ صوتها آتٍ من الداخل مكتوماً، وكأنه مُنبعثاً من جُحر مُتغلغل في أعماق الأرض، مثل جحور الأرانب: «تعال؟» لا ادري لماذا انقبض قلبي، واقشعرّ جلدي، وتناوبتْ على مُخيلتي صورة ”اللبؤة“ وتساءلتُ «تُرى هل تنقلب العجوز الدميمة إلى ”اللبؤة“ التي تتجول بحقول الأذرة الطويلة ليلاً، وتطلب مِمَّن تجده يسقي زرعه، أن ترضعه بثدييها الذين يكادا يلامسان الأرض، كما يُقال، ولكن الناس تخاف من خلقتها السوداء، وعيناها الواسعتين، والشعر الكثيف على جسمها، ويحاولون الهرب منها، حينئذ؛ تصرخ صرخة مدوِّية مُرعبة، تفج صمت الليل، ويسمعها النائمون على فرشاتهم، تجعل من يحاول الهرب منها، يتيبس رعباً، ولا يتحرك من مكانه قيد أنملة، حتى تصله، وتبدأ في اِلتهامه حتى الموت، ثم تقطِّعه بالساطور، وتضعه بجوال، وتحمله على كتفها وتنصرف إلى دارها الذي لا يعرف مكانه أحد، ثم تطبخه هناك على مَهَل، وإن كان طفلاً تُخرج مُخه وتجففه ثم تسحقه كالدقيق وتصنع منه خُبزاً لها، وتلقي بقية الجسد بالماء الساخن في القِدر الضخم فوق الكانون لينضج وتأكله!.».
بخطى وجلة، دفعت الباب ودخلتُ فلم أجدها، ووجدتُ على يميني مشكاة بها قنديل، وأمامي فتحتين لا يتعديان في ارتفاعهما المتر ونصف، ولا يطُل منهما سوى ألسنة الظلام، فالعجوز لا تحتاج أطول من ذلك، فقامتها لم تكن قصيرة فحسب، بل كانت مُقوّسة الظهر، حيث يبد في أحيان كثيرة كحدبة ناتئة عن جسمها، حتى أنه كان يُخيل إليّ آنذاك أني أبدو أطول منها إذا ما اقتربت مني!.
كنتُ واقفاً أتأمل القنديل تارة، وأنقلُ عيناي من فتحة إلى أُخرى تارة، ومزدرداً ريقي تارة أخرى جراء جموح خيالي وشروده، مُنتظراً خروجها من أحداهما، وبيدي صَّحْفَة صغيرة، ملفوفة بخرقة قماش، كانت أمي قد وضعت بها مغرفتي تقلية، وقطعة لحم، وفطيرة بيضاء، وامرتني أن أذهب بها إلى العجوز، التي تسكن في آخر دار بنهاية الطريق المُعتم، ومن خلفه الحقول الواسعة الموحشة ليلاً.
كان دارها كبير؛ لا تبين له نهاية في الظلام، وجدرانه قصيرة، من الطوب النيء، وكانت تعيش به وحدها. يقولون بالقرية أنها مسكينة، كانت مُتزوجة قديماً، من رجل مسكين، لا يملك سوى هذا البيت، وكان عقيماً، ورضيا بنصيبهما. وحدث أنه استيقظ الناس ذات صباح على صراخها المُرعب، ولمَّا دخلوا الدار عنوة... «تُرى هل كان ذلك الدخول سبب خلخلة بابها، وتنافر ألواحه؟!»... وجدوا زوجها ميتاً ميتة غريبة؛ ولمّا سألوها قالت: «لقد افترسته ”اللبؤة“ حينما كان عائداً من العمل بين الحقول ليلاً؛ سلخت جلده، ونزعت لحمه، وتركته عظاماً تكسوها طبقة رقيقة حمراء من اللحم كما ترون، وأنا أحضرته إلى البيت ليلاً!» كان في شرخ الشباب، وهي أيضاً كانت في ريعان جمالها، وطُغيان أنوثتها، ومن بعده، لم تتزوج أبداً، ولا أدري أكان وفاءً ذلك؟ أم تطيراً للرجال منها!.
ما كان يستغرب له أهل القرية، هو كيفية مواصلة هذه المرأة الحياة، بلا عائل، وبلا مُنفق؟ يحدث أحياناً أن يعطف عليها أهل الإحسان، ولكنها حالات نادرة، فقريتنا لا يوجد بها غير المساكين الكادحين، الذين يُشبهون بعضهم بعضاً!.
- جدتي ؟.
ناديتُ كي أتعجلها، فسمعتُ صوتها يخرج من ذات العمق، ويأتني من الفتحتين معاً، تقول لي:
- اصبر ياولد، أنا قادمة؟!
وضعتُ الصَّحْفَة على الأرض، بجوار جرار المياه، والأجولة الكثيرة المُتناثرة، والتي بدا أنها ممتلئة بالخبز اليابس، ثم وقفتُ أتأمل الظلام داخل الفتحتين، وعندما ركزتُ بصري، أبصرتُ عينان مُضيئتان بكل فتحة منهما عين كبيرة، فُتحتا لوهلة في ذات الوقت، وصوبتا نحوي بغضب، ثم أُغلقتا سريعاً!.
جفلتُ إلى الخلف مرتجفاً، مُطلقاً صرخة مكتومة، فتعثرتُ بجوال ثقيل، صدرتْ عنه قضقضة عظام يتكسر، فسقطتُ أرضاً، وتوقف نبض قلبي، وغامت عيناي، وماعدتُ أبصر سوى خطوط متداخلة من النور والظلام، لحظات وسمعتُ بصعوبة، صرير الباب يُفتح، ثم محادثة بين أشخاص تشبه الوشوشة، وتخللها صوت كفحيح الأفاعي، وتحركت خيالات وأطياف من النور والظلام بعيناي.
فجأة؛ عدتُ إلى الحياة شاهقاً، وسرعان ما وقفتُ أتلفتُ حولي مذعوراً...
- ما بك يا ولدي؟!.
قاطعتني العجوز، مُعلنة عن وجودها؛ كانت نحيلة الجسم، موشحة بالسواد، وعلى رأسها شاش أسود مُهدَّل الأطراف من حولها، وشعرها الأبيض يلمع أسفله من ضوء القنديل المُنكسر عليه، وبوجهها خطوط وتجاعيد بعدد سنوات عمرها، التي لا يعلمها أحداً بالقرية أبداً، وتلوح ابتسامة خبيثة على تقاسيمها الخابية، وعيناها تلمعان بوميض مثير للقشعريرة، وتمسك بيدها جوال مُنتفخ، لم يكن موجوداً بالغرفة من قبل..
- ماذا حدث لي؟.
ضحكتْ لمَّا سألتها، فخرجت ضحكتها خشنة كضحكة الرجال، لازمتها رائحة فمها النتنة، ثم قالت:
- لقد نمت ياولدي، عندما تأخرتُ عليك بالداخل!.
ثم اقتربت من الصَّحْفَة، قائلة:
- بلغ سلاماتي لأمك، واشكرها على التقلية واللحم ياحبيبي؟!
ثم تناولتها... ولكن كيف عرفتْ ما بداخله؟ تساءلتُ بها في نفسي حائراً، ثم وجدتها تدلف صوب إحدى الفتحتين، فصِحتُ فيها ببلاهة طفل أخرق:
- أنا لم أنم... أنت كنتِ بالخارج وليس بالداخل... من عِندك بالداخل، وكيف عرفتِ ما بالإناء؟!
عندئذ، وجدتها تستقيم ببطء، وفرقعة عظام ظهرها تعلوا، حتى انتصبت وكأنها ما احدودبت يوماً، واكتست ملامحها جدية، وبدأت عيناها في الجحوظ، وأنياب فمها في البروز منه، ولكني لم أنتظر لحظة أخرى، وسرعان ماكنتُ خارج دارها، أركض صوب دارنا باكياً، مُردداً: «العجوز هي اللبؤة التي تأكل العيال.!»..
ولمَّا حكيتُ لأمي، ضحكت كثيراً، وقالت لي:
- خيالك خصب ياولدي، فعندما تكبر إن شاء الله، ستصبح مؤلف قصص شهير؛ العجوز مسكينة، إنما ”اللبؤة“ كانت امرأة، فمات أولادها جميعاً فجأة، وكانوا سبعة ذكور، فغضبت ولم ترضَ بقضاء الله، وقتلت زوجها، لذلك(سُخطتْ) مُسِخَتْ لبؤة، تشبه القردة والبشر، وتريد أن تقتل أي طفل أو رجل تراه، إنتقاماً لموت أولادها، إنما هذه المرأة مسكينة، فقدت زوجها، على يد اللبؤة ذاتها، وهي من حكت لنا عن حقيقة اللبؤة هذه، وكما ترى يا ولدي، فهي تعيش حياة بؤس وحيدة... نم ياحبيبي نم؟!.
ونمتُ من الخوف، وبالصباح، كان فراشي مُبلل بكميات بول كثيرة، ولا أتذكر بوضوح كمية الأحلام المُرعبة، التي راودتني ليلتها!.
كنتُ متأكداً أن أمي لن تصدقني، وكل من حكيتُ لهم ماحدث معي، لم يصدقوني أبداً، والآن تحققت نبوءة أمي وأصبحتُ مؤلف قصص، وهاأنذا أحكي لكم وأعرف أيضاً أنكم لن تصدقوني!..
ومرتْ الأيام، وكبرتُ، وعرفتُ بالمدرسة أن ”اللبؤة“ تعني ”أنثى الأسد“ ولا يوجد بشراً يُمسخون إلى مخلوقات أخرى في هذا الزمان..
وذات يوم، منذ عشرة أعوام؛ انسربت رائحة نتانة من دار العجوز، ضايقت سائر أهل القرية، فدخلوا الدار عنوة، وفوجئوا بجثة العجوز مُتعفنة، وحتى لا يُرهقوا أنفسهم، ويحركوها من مكانها وتتفسخ، دفنوها محلها داخل دارها، ولم يمس أحد من الرجال أي شيء بالدار، وأُغلق الدار على سرها، وانطوت سيرتها، مع السنين والأيام، وأصبحتْ الدار مهجورةً..
والمُثير للريبة، هو ماحدث منذ ذلك الحين أيضاً، وهو توقف ”اللبؤة“ عن خطف الأطفال، وقتل الرجال!.
كنتُ مسافراً بعيداً عن القرية، وقت وفاتها، وحمدتُ الله أنها ماتت، فقد كنتُ أخشاها، حتى بعدما كبرتُ، ولكن لا أدري ما الذي حَمَلني على أن أمر على دارها بالأمس، وأتأمله طويلاً، وعبثاً رحت أطرقه مرة تلو المرة، وفي دبر المرة الثالثة، ركضتُ صوب دارنا ألهثُ؛ لقد سمعتُ صوتها، الذي أتاني من قبل مكتوماً، كأنه مُنبعثاً من جُحر مُتغلغل في أعماق الأرض، كجحور الأرانب، قائلةً:
- تعال؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق