جسر من وهم | قصة قصيرة لرمضان سلمي - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

اعلان 728X90

السبت، 18 نوفمبر 2017

جسر من وهم | قصة قصيرة لرمضان سلمي


لم أذهب للمدرسة ذاك الصباح؛ بل أخرجتُ هاتفي من جيبي، واتصلتُ بها، ولمَّا فتحت الخط، قلت:
- إيه رأيك نطلع على الكوبري؟.
جاءني صوتها مُتعجباً:
- كوبري إيه يا بني دلوقت؛ ده إحنا داخلين على امتحانات! إنت مش بتهمد؟.
كنا بالصف الأول الثانوي آنذاك، وفي مدرسة مُشتركة واحدة. صمتُ لحظات ثم قلت:
- اقسم بالله لو ماجيتي يا رنا ل...
- جاية، جاية خلاص يا عماد!.
قاطعتني بها، ثم ضحكت، وضحكتُ أيضاً، ثم قاطعتُ ضحكتها قائلاً:
- بحبك على فكرة؟.
- على فكرة؛ أنا عارفة... بس نفسي أسألك: هو إنت ليه بتقولهالي كل شوية؟!.
- هو انتِ ليه دوناً عن بنات الدنيا كلها مش بتحبي تسمعيها كل شوية؟.
ضحكتْ، ثم سألتني مُتهكمة:
- إيه دة! هو إنت كنت بتقولها لبنات الدنيا كلها؟ آه ياخاين، يا كداب، يا غشا...
قاطعتها حانقاً:
- بس بقه يا رنا مضايقنيش؟!.
انفجرتْ ضاحكة بضحكتها تلك؛ تلك التي تُكسبني دائماً ثقة في نفسي؛ أنا من تُحبني صاحبة هذه الضحكة القادرة على دغدغة أصلب المشاعر قسوة، وأصلدها شكيمة. ولكنها دوماً تُناغشني لتُنعشني، ولتُهيج مياه الحياة الراكدة من حولي، لتترك فيّ دوماً مع كل اتصال معها؛ احساس بالتجديد، إنها تجعلني أشعر دائماً بأنني حي؛ وما معنى الحياة سوى أن تجد من تحبه ويحبك، نصفك الآخر الذي يشعر بألمك وأنت بعيد، ويشعر بفرح وأنت قريب، شخص قد خلقه الله ليكملك أنت فقط، صورتك حُفرت في قلبه أثناء تشكله في رحم الغيب!.
استطاعت أن تُثير حنقي كالعادة، ولكن سرعان ما رسبته كما أثارته، حينما قالت:
- أنا كمان على فكرة...
وصمتت، وبدأ قلبي يخفق بسرعة عجيبة؛ أعرف أنه لن يهدأ إلا عندما تنطقها، لذا سألتها:
- إنتِ إيه؟!
هدأ صوتها، التحفته رقة ونعومة، قالت:
- إيه!.
صحتُ بها:
- هو إيه اللي إيه يارنا؟.
لم تجبني سوى بضحكتها إياها، ولكنها باتت حنونة، دافئة، باستطاعتها اختراق جسد أي كائن حي، والانزلاق إلى شغاف قلبه، واستثارة خفقاته..
وفجأة؛ قالت بهمس بالكاد التقطته أُذناي:
- بحبك؟.
طردت تنهيدة طويلة، طُرد معها حنقي وغضبي، وهبطت دقات قلبي وتباعدت المسافة بين كل دقة ودقة كمسافة ميل!.
ونزلت دمعاتي حارة في صمت، وصمتنا كلينا دقيقة كاملة، حاولتُ فيها كبح جماح أنيني حتى لا يفضحني أمامها، وحتى إن فضحني؛ رنا تعرف كل شيء عني؛ تعرف لحظات ضعفي، وأوقات قوتي، تعرف كل نقاط ضعفي، وأنا أيضاً أعرف كل نقاط ضعفها، لأنها جميعاً متمثلة فيَّ أنا...
- إنت فين؟.
انتزعتني بسؤالها الهادىء من وهدة حنيني، ومن غيابات تفكيري، قلت لها بصوت كافحتُ كي يخرج من فمي مفهوماً:
- فوق الكوبري.
- كوبري إيه؟.
انفعلتُ مُجدداً:
- الله! هيكون كوبري إيه يعني يا رنا؟!.
- كوبري امبابة طبعاً.
- طب لما أنتِ عارفة بتوجعي قلبي ليه؟!.
صمتت ثم قالت بلهجة جادة:
- ماعاش اللي يوجع قلبك يا عماد...
- لأ عاش يا رنا، عاش، وبيكلمني دلوقت، وعمال يناكف فيَّ!.
- أنا!... ده أنا حبيبتك!.
- ما هو عشان حبيبتي؛ قلبي موجوع!.
ثم ران الصمت علينا، فكبحتُ دمعاتي، ونهضتُ من فوق درجة سلم الممشى فوق الكبري؛ لم يكن هناك مارة فوق حارتي المشاة الحديديتين أعلى الكوبري.
تحركتُ صوب الدرابزين والهاتف على أذني، رحتُ أتأمل النيل بالأسفل، ثم الجسور القابعة فوقه والغارقة في ضباب الصباح، وازدحام السيارت من فوقها؛ ذلك الازدحام الذي لا تنخفض ذروته في صباح أو مساء، ومباني الزمالك العتيقة، وقبالتها الأبراج الزجاجية الشاهقة التي تلمع من نور الشمس، والمراكب الشراعية الشاقة المياه الخضراء بأبهة وهدوء، و قطع السحاب المتناثرة بالسماء..
ماذا لو لم أتزوج رنا؟ ماذا لو افترقنا؟! سألتُ نفسي، ولم أجد بداخلي جرأة على التفكير في أيما إجابة!.
- أنا جييت؟.
كانت رنا، شعرتُ بها تطوقني من الخلف وتسكن، تنهدتُ بارتياح، وشُحِنتُ من جسدها بطاقة كهربائية لذيذة، تكفي لإنارة القاهرة عاماً دون أن تنضب..
قلت بصوت مُتهدج:
- كفاية كدة، لحد يكون معدّي يشوفنا على الوضع ده يفهمنا غلط؟.
تراجعتْ برأسها قائلة:
- طب نبدِل أماكنَّا عشان يفهمونا صح؟!.
ضحكتُ قائلاً:
- يا قليلة الأدب؟.
انفكت عني؛ وانتابتها ضحكات هيستيرية،  استدرتُ محاولاً إيقاف نفسي عن الضحك، وجدتُ جسدها يهتز داخل تنورتها الكُحلية، وقميصها الأبيض، وقد اِحمَرَّتْ خدودها الوردية، والتمعتْ عيناها الكحيلتين، وعلى وشك إسقاط دمعاتها جراء ضحكها الشديد، وضعتُ الهاتف في جيبي، قلتُ:
- وحشتيني؟.
توقفت عن الضحك فجأة، وكأنها فركت ذر إيقاف قائلة:
- يعني خليتني ما اروحش المدرسة النهاردة، وجايبني من ”شارع البوهي“ مشي، عشان تقولي ”وحشتيني“ ما قولتهاش ليَّ ليه في التليفون ووفرت تعب رجليَّ؟!
امتعضتُ، عدتُ لتأمل النيل، وقفت بجانبي تتأملني، وضعت كفها الأبيض الناعم فوق كفي القابضة على الدرابزين، قالت بجدية:
- عايزة أقولك على حاجة، بس مش عايزاك تزعل؟.
استدرتُ مُتأهباً لسماع مَرزِئة، بعد أن نزعتْ يدها وراحت تفركهما ببعضهما البعض في حيرة وقلق، قلتُ:
- قولي بسرعة وقعتي قلبي؟!.
قالت مُحمرة الوجه:
- إنت كمان وحشتني!.
- يلعن أبو شكلك؟!.
خرجتْ رغماً عني، فعادت لضحكاتها، فهممتُ أن أوبِخها لولا أن أخرصني بوق القطار المار من أسفلنا وأزيزه المرتفع، الذي لو صحنا بجواره بأعلى صوتنا لبدا أننا صامتين..
                                    ***
حقاً؛ كانت ذكريات جميلة..
بعد ذاك اليوم بعدة سنوات؛ تزوجتْ رنا، وبعدما تزوجتْ ؛ أحببتُ نرمين ولكنها تزوجتْ، وبعدما تزوجتْ ؛ أحببتُ مريم، ولكنها تزوجتْ أيضاً، وبعدما تزوجتْ؛ أحببتُ سالي، ولكنها تزوجت هي الأُخرى!..
وأخيراً؛ تزوجتُ أنا منذ عام، وأنا الآن أحب زوجتي ريهام كثيراً..
والعجيبة أني - حتى الآن - لم أجرؤ على التفكير في إيجاد إجابة لذلك السؤال أبداً:
- ماذا لو لم أتزوج رنا؟!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق