الحزينة | قصة قصيرة لرمضان سلمي - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

مرحبا بكم

الجمعة، 11 أغسطس 2017

الحزينة | قصة قصيرة لرمضان سلمي



أسفل إنارة الأعمدة الصفراء المتباعدة؛ برزتْ غير بعيد من انحناءة الطريق الرئيسي، دلفت إلى طريق المدرسة الجانبي؛ حاملة بيدها اليمين حقيبة بلاستيكية بيضاء، وعلى كتفها الأيسر حقيبتها الجلدية.
من مقربة بدت قصيرة القامة، تملك جسماً صئيلاً، ترتدي تنورة سوداء قصيرة وأسفلها سروال "فيزون" أسود، وأعلاهما "فيست" بنفس اللون..
راحت تتأمل بعيناها السوداوتين الواسعتين، المنازل الصفراء ذات الطابقين التي تعلوها القباب على جانبي الطريق الترابي، وتحيطها الأسوار القصيرة التي تطلُ من أعلاها شجيرات الزينة الخضراء؛ شعرتْ لوهلة أن تصميمات المدينة الهندسية مستوحاة من المقابر، عادت ببصرها إلى الطريق..
تذكرته؛ في مثل هذا الوقت؛ صادفته أكثر من مرة ماراً بهذا الطريق، وذات مرة كان قادماً في عكس اتجاهها، اختلستْ بعض نظرات له دونما أن يشعر؛ خمنتْ أنه بالعقد الثالث من عمره، حفظت تفاصيله؛ كان متوسط القامة، ممتليء الجسم، بشارب خفيف، ولحية نابتة؛ يرتدي سروالاً أزرقاً من "الجينز" ومعطفاً أسوداً، وطاقية زرقاء، وعلى كتفه حقيبة سوداء مهترئة..
عرفت من ثيابه أنه يعمل بأمن المدينة، كان مطرِقاً الرأس، مُقطب الحاجبين، متجهم؛ لم يتفحصها كباقي الشباب، رمقها بنظرة باردة، تمتم:
- مساء العسل ياقمر!.
ثم أطرق من جديد مواصلاً طريقه، وبعد ابتعاده؛ استدارت، التفتت إليه؛ وجدته مازال مطرقاً، وقد قارب على انحنائه إلى الطريق الرئيسي، وفجأة؛ استدار؛ صوب نظره إليها وابتسم. ارتعدت، عادت بنظرها إلى الطريق، أطرقت رأسها ومدت الخطى، ودلف هو إلى الطريق الرئيسي..
وقتذاك؛ سعدتْ بغزله كثيراً؛ فقلما تُغازل بالطرقات، ولكن ما شغلها؛ حزنه البادي على وجهه، تمنتْ لو أنها تخترق قلبه لتعرف ما كنهه ذاك الحزن؟ ربما لأنها شعرت بأنه مختلف، أو ربما لأنها أحست بانجذاب ناحيته، أو ربما لأنها حزينة مثله؟.
هي؛ تعمل بصيدلية بمدينة السادس من أكتوبر، وتسكن في شقة بمدينة القباب هذه والقريبة من عملها؛ مع أمها ذات الخمسين سنة، وأبوها ذو الستين سنة، ليس لها إلا أخ واحد؛ مهندس معماري متزوج ويقطن بالتجمع الخامس. وصل عمرها إلى ستة وعشرين سنة ولم تتزوج بعد.
شردتٍ؛ تذكرت آخر عريس؛ وقتذاك؛ ظلت تبكي فوق سريرها، بعد تقدمه لها بأيام. دخلت عليها أمها؛ فبدت امرأة هزيلة الجسم، قصيرة القامة، جعدة الوجه. اقتربت منها؛ ربتت على ظهرها، جلست بجوارها فوق السرير، قالت:
- يابنتي... ده خامس عريس ترفضيه! جرالك إيه بس؟ انت كدة هتعنسي؟.
كفكفت دمعاتها، نظرت لأمها، قالت:
- أطول مني بكتير يا ماما، لأ وطخين كمان! وكل اللي اتقدموا قبل منه؛ نفس الحجم يا ماما!.
- وفيها إيه يابنتي؟ دة أي بنت تتمنى جوزها يبقى طويل!.
- أي بنت مش أنا يا ماما؛ أنا قُزعة! أنا أقصر منهم بمتر وربع! حرام يا ماما إنتِ عايزة تموتيني بدري بدري، ولا عايزة الناس تتريق علينا في الشوارع، ولا يعيروه بيه، وهو يعايرني ويكسر نفسي؟!.
عادت للبكاء، احتضنتها أمها، قالت بصوت متهدج:
- أنا بخاف منهم ياماما! دول عمالقة... عمالقة ياماما!.
- مشكلتك إنك رقيقة يا حبيبتي وقلبك رهيف! إن شاء الله ربنا يرزقك بعريس قُزعة زيك؛ عشان يتريقوا عليكم أنتم الاثنين... اضحكي يابنت وفكيها بقة؟..
أفاقت من شرودها، رفعت بصرها؛ وجدت نفسها قد قاربت على الوصول لنهاية الطريق، ومن ثم تسلك اليمين ثم اليسار، ثم تصعد السُلم الخارجي، وتصل إلى الشقة..
فجأة، ظهر أمامها؛ هو، بنفس وجومه، وإطراقه لرأسه، ونفس حقيبته السوداء المهترئة؛ شعرت بانقباضة في قلبها، تأملته من بعيد، رفع بصره؛ نظر إليها؛ أطرقت سريعاً، ابتسم؛ مشى باتجاهها؛ ارتجفت، تعالت دقات قلبها، لم ترفع بصرها، اقترب منها، قالت في نفسها: «يارب مايغازلني ولا يتكلم معايا... يارب!.» مر بجانبها، زفرت بارتياح: «الحمد لله عدى وفات!».
- من فضلكِ يا آنسة؟.
تسمَّرت محلها مطرقة رأسها؛ لقد توقف خلفها ونادى عليها، اضطربت دقات قلبها، نقأ وجهها خجلاً وخوفاً، سمعتْ وقع أقدامه يقترب من خلفها؛ قطر جبينها عرقاً، التحفتها رجفة، وقف بجوارها، مد يده بورقة صغيرة، قال:
- الورقة دي وِقعتْ منِك يا آنسة؟.
فقدت تركيزها، نظرت ببطء إلى الورقة؛ لربما وقعت منها، مدت يدها المرتجفة؛ اختطفتها، وضعتها بحقيبتها، وهرولت مبتعدة، ابتسم؛ واصل طريقه..
وصلت الشقة؛ خلعت حذاءها، فتحت الباب، دخلت؛ ألقت الحقيبة البلاستيكية فوق المنضدة بالصالة، هرولت صوب غرفتها، ارتمت على السرير؛ زفرت، أغمضت عينيها، راحت تلتقط أنفاسها، وتهديء من دقات قلبها..
بعد لحظات؛ هدأت دقات قلبها، فتحت عينيها وجلست، التقطت حقيبتها سريعاً؛ أخرجت الورقة منها، فتحتها؛ وجدت رقم هاتف، وقد كُتِبت فوقه بعض كلمات؛ قرأت: «نفسي أعرف إنتِ ليه حزينة كدة على طول؟ ممكن تبعتيلي الرد في رسالة على رقم التليفون دة لو مافيهاش رزالة؟.»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق