حُكى في قريتنا على ألسنة كبار السن؛ حكاية غريبة يُقال أنها حقيقية؛ لا زلتُ أتذكرها؛ وقعت أحداثها منذ أربعون سنة تقريباً..
غرباً في ”عرب مطير“ قريتي الكائنة بأسيوط؛ تشق القرية تُرعة كبيرة يبلغ عرضها عشرة أمتار، وتقسم القرية إلى ظهرانين؛ شرقي وغربي؛ أما الشرقي فتربته صفراء، وخضاره ليس دائم، وقريب من الصحراء التي تسبق سلاسل جبال البحر الأحمر، أما الغربي فأرضه سوداء تُزرع طوال العام وقريبة من قرى ”مركز الفتح“ الذي يبدأ من شرقي النيل..
وتقبع فوق الترعة قنطرة قديمة البناء مقوسة من أسفل؛ عرضها حوالي ستة أمتار، وحافتيها جدارين من الآجر(الطوب الأحمر) لا يتعديان المتر في ارتفاعهما..
ومن حولها كانت ولا زالت حقول شاسعة ينتشر بها النخيل الشاهق، وأشجار النبق والسنط، وقليل من أشجار الفاكهة، وتتناثر المنازل الريفية بقلة بعيدة عن بعضها البعض..
ولكن منذ أربعين عاماً أو أكثر لم تكن عامرة كما هي الآن، فالآن؛ الطريق الرئيسي الذي يمر بالقنطرة انتشرت على جانبية المنازل المبنية من الطوب الآجر أو الحجري والأسمنت والخرسانة، وتوافرت بكامل القرية جميع الخدمات حتى أصبحت تُضاهي المدن..
كان أهل القرية بالسابق ليسوا بكثيرين كحالها الآن وكانت العائلات قليلة، وكانت الكهرباء لم تصل بعد، وكان الظلام هو الغالب عليها دائماً طرقات ومنازل، وكانت وسيلة الإضاءة الوحيدة هي ”القنديل“ الذي يعمل بالزيت أو الكيروسين والذي يطلق عليه ”لمبة نمرة ١٠“ واللمبة الصفيح ذات الشريط القُماشي التى تعمل بالكيروسين أيضاً..
كانت البنادق المتنوعة في متناول أيدي معظم أهل القرية؛ فقد كانت بيئة القرية قاسية إلى حد كبير وكان لابد من وجود السلاح، إما لاستخدامه في معارك الثأر، أو لمحاربة اللصوص، وأحياناً يُستخدم في حراسات الحقول، أو للدفاع عن النفس ضد أي حيوانات مفترسة كالذئاب والضباع المُنتشرة آنذاك بسبب قلة العمار..
كثيرا ما نشبت المعارك بين بعض عائلات بالقرية من ناحية، وبين عائلات القرية وبعض القرى المجاورة من ناحية أخرى، وكانت معظم حالات القتل تتم بالحقول أو بالطرقات، وسرعان ما يتحول مسرح الجريمة إلى مكان يهابه الناس، ويُذاع بأن الشخص الذي قُتل بهذا المكان يظهر بالليل ”عفريتاً“ فيُثار الرعب في معظم قلوب أهل القرية الذين يقصدون تلك الأماكن أو يمرون بها، وعندما يحل المساء ويخيم الظلام يتجنبون حتى الاقتراب منها إلا ذو القلب الشجاع أو من يجهل بماحدث..
***
كان الناس عند مرورهم ليلاً فوق القنطرة إما من شرق القنطرة لغربها أو العكس؛ يشعرون بقشعريرة غريبة في أجسادهم وشعرهم، ووجيف بقلوبهم، وانعقاد بألسنتهم، وتصبب للعرق من جبينهم!.
وعند الاقتراب أكثر؛ يرون مخلوقاً غريباً يظهر عياناً بياناً في أشكال مختلفة فوق القنطرة؛ يثير الرعب فيهم، ويخيفهم ..
قال كبار السن أنهم شاهدوه في هيئة حيوانات ناطقة ومخيفة، أو كومة من اللحم؛ عند قراءة ”الآيات“ عليه يتحول إلى عامود من الدخان ويتطاير إلى أعلى..
وشاهده آخرون في هيئة طفل صغير تائه باكٍ، فإن اقترب منه أحداً؛ اِستحال إلى مخلوق ضخم دميم الخلقة مُرعب ليصدم من اقترب..
وأحياناً كان يُشاهد في هيئة سيدة مسنة؛ أو رجل مسن، أو يظهر لأحدهم في هيئة صديقاً له أو قريباً له أوشخصاً ذهب أحدهم لمقابلته فيجده أمامه وتحدث الفاجعة!..
وكان ينادي على المارة بأسمائهم فكانوا يهربون منه هربهم من الموت..
فكان المارة يحاولون أن يأخذوا حذرهم منه بقراءة الآيات، أو بحمل السلاح ظناً منهم بأنه يخاف من السلاح، أو يمرون جماعات حتى يتفادون ظهوره؛ فهو لا يظهر لأكثر من إثنين، ولكن مهما حدث فلا يستطيع الناس تفادي المرور بالقنطرة ليلاً، فلا يوجد بديل لها قريب..
وبالنهار؛ حدثت بعض حالات غرق تحت أقواس القنطرة، ولا يُعرف هل هي عادية أم بسبب أنها مسكونة..
وفي تلك الأثناء؛ أُشيع بين الناس أن القنطرة مسكونة بمارد من الجن قوي، هو الذي يظهر في كل ما سبق وصفه، ومن أشهر التصادمات بين ذلك المارد وبعض أهل القرية؛ حادثتين..
«الحادثة الأولى»
في ليلة من ليالي الشتاء؛ كان البرد قارساً، والضباب يكسي الحقول، ونباح الكلاب يغيض ويعلو..
كان أحد رجال القرية عائداً من حقله من غرب القنطرة، ولم يكن يصدق بمثل هذه الروايات عن المارد..
وبينما هو مار بالقنطر؛ وجد رجلاً موشح بالسواد، مقرفصاً فوق حافة القنطرة، كتلة مُظلمة، لا تظهر من معالمه شيء، شعر رجل القرية بأن ذلك الجالس يراقبه على ضوء القمر الواهن، توقف رجل القرية، حدج الجالس، فلم يتبينه، ثم قال:
- السلام عليكم؟!.
ولم يرد الجالس؛ أعاد رجل القرية الكرة عليه ولازالت إجابته الصمت ، عندها غضب ثم قال:
- كيف لا يرد السلام عليَّ هذا الجالس؟!.
فاتجه رجل القرية إلى الجالس، نهره قائلاً:
- لماذا لاترد السلام ؟.
وفجأة؛ ظهرت عينان واسعتان برأس الجالس على حافة القنطرة، وظهرا ذراعان طويلان، وفي هدوء مدَّهما، وحمل الرجل وقذف به بعيداً فسقط في تُرعة صغيرة ضحلة مياهها، تقع بموازاة الترعة الكبيرة من الشرق..
ثم قفز في لحظة عليه من علٍ، وانهال عليه ضرباً؛ رفعه إلى أعلى ثم نزل به وغطَّسه بالماء، ثم أخرجه ثانية، وعاد ليضربه ضرباً مبرحاً وسط صراخ رجل القرية ورعبه واستغاثاته..
وبالصدفة كان رهط من الرجال مارون فوق القنطرة راكبون حميرهم؛ ذاهبون إلى أحد الأسواق البعيدة مبكراً، فأحس بهم ”المارد” واختفى..
سمع الرجال العابرين للقنطرة صوت أنات رجل القرية وتوجعاته؛ فنزلوا الترعة الصغيرة سريعاً، وأخرجوه مُتمتمين:
- لقد انفرد به المارد وحيداً، حمداً لله أنه لازال حياً!.
ومن لحظتها وفقد رجل القرية عقله وصار مجذوباً..
«الحادثة الثانية»
رجلاً من أهل القرية يعرف بأمر القنطرة المسكونة، وسمع عن ذلك المارد المُرعب، ولكنه لا يكترث لتلك الأمور؛ لا يهاب هذه المخلوقات!..
كان يسقي حقله القريب من القنطرة غرباً، ومعه بندقيته الآلية، وبينما هو عابراً للقنطرة؛ ظهر له كوم ضخم من اللحم؛ اقترب الرجل من كوم اللحم رويداً رويداً؛ فبدأ كوم اللحم يتحرك ويتجسد ليكون هيئة مخلوق أسود قبيح وضخم!.
ابتلع الرجل ريقه؛ لم يتخيل أنه بتلك القذارة؛ لم يخف منه، ولكنه شعر بالقرف من هيئته المقززة..
فرقع أجزاء بندقيته، صوبها تجاه المارد، وفجأة؛ أصبح المارد القبيح يقف لصق وجه الرجل بعينيه الواسعتين الحمراوتين اللتان لا تحويا بمحجريهما حدقات..
لم يُمهل المارد الرجل حتى لينذهل أو يجفل من مُباغتته؛ لكنه حمل الرجل وبندقيته وقذفه بعيداً عن القنطرة لمسافة تتعدى ”ستين مترً“ فارتطم بالأرض بقوة فتهشم عاموده الفقري، وبعد الحادث بأيام مات الرجل..
***
أما الآن وبعد مرور عشرات السنين؛ دخلت الكهرباء القرية وتم رصف الطرق وإنارتها، وانتشرت المنازل من حول القنطرة كما ذكرتُ بالأعلى، وكثرت الحركة في تلك المنطقة، وتضاءلت مشاهدات ذلك المارد بل انقطعت نهائياً..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق