اِنطلقَتْ من حولها زغاريد النسوة والفتيات الجالسات في باحة الشقة الصغيرة على الكنبات الوثيرة، قالت إحدى النسوة العجائز:
- أين الدكتورة ”نهى“ لنهنئها بالتخرج وبحصولها على الدكتوراة؟.
راحت تدور الأم عليهن بالصينية، قالت:
- هي بغرفتها ستخرج حالاً.
خرجت نهى من غرفتها مبتسمة؛ بدت في السابعة والعشرين من عمرها؛ متوسطة القامة، ملفوفة القوام، بيضاء البشرة، ذات عينان كحيلتان واسعتان، وحاجبان رقيقان، وأنف متوسط، وشفتان حمراوتان ممتلئتان، وشعر أسود كموج هائج فوق كتفيها، مرتدية ”تريننج“ رمادي ضيق. دلفت صوبهن، فقمن ليسلمن عليها ويهنئنها، وعيونهن معلقة بنهديها الجاثمين أسفل ”التيشيرت“ وردفيها اللينين المترجرين..
***
وبعد ساعة؛ انتهى الاحتفال البسيط؛ دلفتْ إلى غرفتها؛ أوصدتْ الباب، فتحت أدراج مكتبها المجاور للسرير؛ أخرجت كتاب؛ فتحته وأخرجت منه ورقة صغيرة، مكتوب عليها رقم هاتفه و ”اتصلي بي“ وما إن رأتها حتى نقأ وجهها، وأدمعت عيناها. جلست على سريرها، أغمضت عينيها؛ وبدأ شريط ذكرياتها يتحرك من نقطة ما بالماضي..
كان أول يوم لها بالجامعة؛ أخيراً التحقت ”نهى“ بكلية الطب؛ قررت الأم أن تذهب معها بنفسها، وقفتا الاثنتين أمام البوابة، ومن حولهما الشباب والفتيات داخلين وخارجين بثيابهم المختلفة الألوان والأذواق؛ مبتسمين ومقطبين ومثرثرين.
كانت نهى ترتدي سروالاً من ”الجينز“ الأزرق، وبالأعلى قميصاً أبيضاً، وتلف رأسها بطرحة زرقاء، وعلى كتفها تتدلى حقيبتها الجلدية. قالت الأم وتغمرها الفرحة :
- آخيراً تحققت أمنيتي وأمنية أبيكِ رحمة الله عليه!.
- رحمة الله عليه... الحمد لله يا أمي! ولكنكِ أرهقتِ نفسكِ معي؛ لم أتيتِ وأنتِ مريضة؟.
- هذا أهم يوم في حياتي ولن أنساه ماحييت...أرجوكِ يانهى؟
- ماذا يا أمي ؟.
- ركزي بدروسكِ؟ لا تنسين من أنتِ؟ ولا تنسين أين وكيف تربيتي؟.
- لن ولم أنس إن شاء الله يا أمي!.
أدمعت الأم؛ احتضنتها، قالت:
- اهتمي بأن تصبحي طبيبة؟ وبعدها سيأتكِ النصيب والزوج الذي يتشرف بكِ وتتشرفين به إن شاء الله!.
- إن شاء الله..
دخلت نهى إلى حرم الكلية منبهرة بما ترى، ومتأملة الطلاب والطالبات، والمباني الضخمة، وراحت تسأل عن مدرجها، كانت مفعمة بالحيوية والجمال. لمَّا لاحظت نظرات الإعجاب من الشباب، انتفض قلبها وتبسمت، ولمَّا لاحظت بعض النظرات الخبيثة لجسمها؛ راحت تتهادى الخطى بمياعة، ولم تكترث للجمر الذي تحرق به غرائز الناظرون!.
***
إنتهى اليوم الأول، في طريقها إلى البيت أحست أن هناك شاباً يتبعها، توقفتْ عن السير؛ نظرت إلى الخلف فوجدت شاباً وسيماً ينظر إليها بإعجاب؛ حدجته ثم واصلت السير فتابعها الشاب الوسيم؛ استبقها؛ أستوقفها، سألها:
- من فضلكِ هل تعرفين شارع الحرية؟.
تأملته؛ فبدا لها شاباً طويل القامة، ممشوق القوام، مهندماً، جميل التقاسيم، فأجابته بابتسامة، ووصفت له الطريق باستفاضة. كان الشاب كلما حدق بعينيها الجميلتين؛ شعرت برجفة قلبها واضطراب نبضاته، وتلعثم حروفها، قال لها:
- اسمي ”سامر“ وأسكن بالشارع الذي سألتكِ عنه؛ لكني أردتُ أن أتعرف بكِ لأنكِ جذبتني بملامحكِ الفريدة الجميلة!.
طأطأت رأسها؛ أخرج من جيبه ورقة، مدها إليها؛ صمتت، قال:
- بالله عليكِ لا تكسفِ يدي؟.
***
وصلت البيت شاردة؛ وصورته لا تفارق مخيلتها؛ دخلت غرفتها، خلعتْ ملابسها، وقفتْ بملابسها الداخلية تتأمل جسدها مبتسمة بمرآة الصوان؛ سمعت أمها تنادي؛ التقطت عباءة قطيفة حمراء؛ ارتدتها سريعاً، صاحت:
- قادمة يا أمي؟.
أخرجت الهاتف المحمول، والورقة من حقيبتها، نظرت بها؛ وجدت رقم هاتفه، وكلمة "اتصلي بي" تمتمت مبتسمة:
- أكانت جاهزة بجيبه أم ماذا؟!.
ألقت بجسمها على السرير؛ نقلت الرقم على هاتفها، حفظته بسجل الهاتف، وطردت تنهيدة طويلة من أعماقها، ابتسمت، وبدأت تراودها أحلام اليقظة؛ تخيلته حبيبا لها! «ولم لا؟ هو وسيم وأنيق ولبق» لكنها فضلت عدم التسرع، تمتمت:
- سأنتظر حتى يتقد الجمر!.
- نهى؟.
- قادمة يا أمي!.
***
بعد مرور أسبوع؛ عادت إلى البيت مكفهرة الوجه؛ حاولت أن تنم؛ لم تستطع؛ أحست بأن الجمر أصبح فراش سريرها، ضاقت ذرعاً من ركود أيامها؛ قررت أن تتصل بسامر، جلست على السرير؛ تناولت الهاتف، اتصلت:
- لماذا أعطيتني رقم هاتفك؟.
- لأن قلبي خفق لكِ... افتقدتكِ؟.
صمتت لم تجب، قال:
- بالله عليكِ ألم تفتقدينني؟.
- الحقيقة...
- ها؟ ما هي الحقيقة؟.
- افتقدتُك!.
- ما رأيكِ أن نتقابل غداً؟.
وتقابلا مرات عدة، وتوطدت العلاقة بينهما، وتعلقت نهى بسامر تعلقاً شديداً..
***
ذات يوم؛ كانت مدثرة بالملاءة، والهاتف على أذنها، وسامر على الطرف الآخر، قالت:
- أتحبُني ياسامر؟.
- وهل يحتاج هذا السؤال إجابة؟.
- أريد أن أسمعها؟.
- أحبكِ... أعشقكِ... أنتِ كل حياتي؟.
- أخطبني إذاً؟.
- ليس الآن!.
- متى؟.
- قريبا جداً - إن شاء الله - عندما أجهز شقتي!.
- أعانكِ الله ياحبيبي؟.
- كيف حال أمكِ؟.
- أمي تعبت من عملها، لها أكثر من خمسة عشر عاماً بتلك الوظيفة...
- ماذا تعمل؟.
- عاملة نظافة بإحدى المؤسسات الحكومية!.
- أعانها الله؟.
- أتمنى أن أسعدها؟.
- إن شاء الله ستسعدينها... المهم!.
- ماذا؟
- ماذا ترتدين اليوم؟.
***
بعد مرور أسابيع؛ تأخرت نهى بالجامعة حتى الساعة العاشرة مساءً، هاتفت سامر؛ انتظرها حتى يرافقها، وقبل الوصول إلى المنطقة التي يسكنان بها بمسافة طويلة؛ نزلا من السيارة الميكروباص، سألته:
- لماذا نزلنا؟ الوقت سيتأخر بنا وأمي ستقلق!.
- سنترجل قليلاً؟.
مشيا على طوار أحد الطرقات الشبه خالية؛ كان سامر مهندماً، وكانت نهى متأنقة، وبعد لحظات سير؛ تشابكت أيديهما، سعدت نهى وأحست براحة وتركت يدها بين أحضان يده، وتركت أنامله تعيث بأناملها، ورفع يدها ولثمها ثم قال سامر بلهجة حنون:
- أنا أحبكِ يانهى ؟.
اضطربتْ خفقات قلبها، قالت:
- وأنا أعشقك يا سامر؟.
- أتمنى أن أسكن بين أحضانكِ ولو لثوانٍ؟.
- أما أنا فأريد أن أسكُن في أحضانك للأبد؟.
فنظرا حولهما فوجدا بعض المارة بالطريق، وكان هنالك بنهاية الطريق؛ جسر يرتفع عن الأرض بضعة أمتار، بعيداً عن الوحدات السكنية، وكان أسفله مظلم. أومأ سامر إلى نهى؛ فارتجف قلبها؛ أخيراً ستتذوق حضن حبيبها؛ جذبها من يدها وانطلقا قبل أن يلحظهما أحد إلى أسفل الجسر؛ حيث الظلام الذي يحجب رؤية أي عذول لهما، دخلا أسفل الجسر، أصبحا يريا بعضهما بصعوبة، قال سامر:
- هيا ضميني فأنا ملككِ الآن ؟.
اِرتمت نهى في حضنه قبل أن ينهي طلبه، لحظات وعلى نحيبها بين أحضانه، همس سامر بإذنها:
- توقفي عن البكاء؛ حتى لا يلحظنا أحد ويسيئون فهم وضعنا! الناس لا تعرف أني أحبكِ يانهى!.
همست بصوت متقطع:
- أحضني أكثر يا سامر؟ أريد أن أسمع قضقضة عظامي بين ذراعيك؟.
-أحبكِ؟
- أعشقك؟
وسرعان ما ذابت في أحضانه، وأصبحت كالعجينة التي تنتظر الخباز أن يشكلها كما يحلوا له، عندها بدأ سامر بتشكيلها؛ بدأ بتحسس كامل جسمها ببطء؛ تنهدت، التقم شفتيها، وشرع في تقبيلها بشراهة فاستسلمت.
انتهى من تقبيلها، ألصق ظهرها بأحد أعمدة الجسر؛ فك أزرار قميصها، وانكب على نهديها فتعالت أناتها وتأوهاتها.
بعد دقائق توقف، ثم همس إليها بإنزال سروالها، همست:
- يكفيك ما تركتك تفعله، والباقي بعد الزواج؟!.
- لا تخشِ شيئاً؟ سنستمتعُ ولكنكِ ستظلين بكراً كما أنتِ... أعدكِ بهذا حبيبتي؟.
نفذت ما أمرها به، وابحرا معاً في بحور اللذة المحرمة؛ أحبتْ نهى مافعلاه معا بالظلام وبات يتكرر ما حدث بتلك الليلة كل أسبوع أو أسبوعان؛ كانت تتأخر بالجامعة، تتصل بسامر، ويبحثان معاً عن مكاناً مظلماً ليس به عذول..
انشغلتْ نهى عن مذاكرة دروسها، ولمَّا حانت الامتحانات؛ رسبت في معظم المواد، عادت من الجامعة مكفهرة الوجه؛ كارهة للجامعة وللدنيا كلها. دخلت غرفتها؛ أغلقت الباب، بدلت ملابسها، تمددت فوق السرير، اتصلت بسامر، قالت:
- لقد رسبت!.
- وهل أنا السبب مثلا؟.
- نحن الاثنان السبب!.
- لا عليكِ، من اليوم ستنتبهي لمذاكرتكِ فحسب!.
- ماذا تقصد؟.
- لقد رحلنا إلى الاسكندرية، ولن نعود إلى القاهرة ثانية؛ إن أبي وجد عملاً جديداً هناك بجوار عائلته.
- وأنا؟.
- وأنتِ ماذا؟.
- ألن تخطبني؟.
- لن أخطبكِ!.
انقبض قلبها، قالت:
- أنت تمزح؟!.
- أنا أكلمكِ بصدق... والله إن لي خطيبة بالاسكندرية منذ سنين!.
- وما فعلناه ووعودك لي؟!.
- أنا لست نذلاً وسأظل صديقاً وفياً لكِ!.
طفرت الدموع من عينيها، هدأت نبضات قلبها حتى قاربت على التوقف، لاذت في نحيب حارق، قالت بصوت محشرج:
- لعنة الله عليك أنت وصداقتك؟!.
- ما خطبك؟ لقد قضينا وقتا لذيذاً معاً، ولن ننساه أبداً ما حيينا، لذا هدئي من روعك يا "نهنوهة"؟.
ألقت الهاتف؛ أغمضت عينيها، شعرت بدوار، أظلمت الدنيا من حولها..
فتحت عينيها؛ توقف شريط الذكريات؛ مسكتْ بالورقة؛ دلفت صوب المطبخ مخضلة الخدين؛ تناولت القداحة؛ أبرمت بها النار..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق