صُرصُور ضَجِر | قصة قصيرة لرمضان سلمي - مدونة رمضان سلمي برقي

اخر الأخبار

مساحة اعلانية

مرحبا بكم

الثلاثاء، 17 يوليو 2018

صُرصُور ضَجِر | قصة قصيرة لرمضان سلمي

يصلني أزيز المروّحة على استحياء، مخترقاً الفُرَج بين ألواح الباب المتشبعة أخشابة المتآكلة بالماء.
تنقطع مياه الدش، تسقط آخر قطرتين فوق شعري المُبلل، ويتوالى -من وجهي- تساقط قطرات المياه مقرقعة فوق بلاطات الحمام، وكأن كل الأصوات توقفت عداهما!
لم أضجر فقد تعودتُ انقطاع المياه في مثل ذلك الوقت عصراً؛ ليس لديّ طلمبة كهربائية كي أجبرها على التدفق بماسورة شقتي بالطابق الأرضي.
ولم تعد هذه مشكلتي وحدي فقط، بل باتت مشكلة العمارة كلها، بل المنطقة النائية عن القاهرة والمزدحمة بالسكان بأكملها، الكل عرف طريقه للبراميل البلاستيكية والجراكن والزجاجات الكبيرة. لقد عدنا للبداوة من جديد.
أخرج عارياً بجسدي الضامر، وقامتي المعتدلة، أتناول جركن مياه من المطبخ، ثم أفرغه بجردل الحمّام، وأتناول الكوز. هكذا أفضل، ولكن أكُل هذا الجَدَب، والسدّ إياه لم تتم تعبئته وتشغيله بعد؟! أتساءل بها ثم أعد لغرف المياه وبعثرتها على جسدي.
أنتهي، ثم أخرج مرتديًا ثيابي، أجول بنظرة متفحصة بغرفتي الشقة، فأتأكد بأن شريكي بالشقة لم يعد بعد!
على ضوء المصباح الأبيض الموّفِر؛ أشعل التلفاز ذو العلامة التجارية المنقرضة، المسجى فوق منضدة وطيئة بثلاثة أرجل، ومحل الرابعة يقبع جردل بلاستيكي مقلوب.
وأنا جالس فوق السجادة الخضراء مُتآكلة الأطراف، والصَرَاصِير تفر من حولي عائدة صوب الحمّام؛ وكأنني أزعجتها بدخولي، وقد كانت تنتظر خروجي بفارغ الصبر! أُنصتُ إلى ذلك المحلِل السياسي الأربعيني الشهير، في أحد برامج الثرثرة. كان مُتحمسًا، ووجه الغليظ لا تبين منه ملامح، وتتوارى رقبته خلف لُغد ضخم، وعَرَقه يتصبب من صلعته على وجهه قائلًا: «لابد أن نوقف "النمو السكاني"؛ ذلك النمو هو السبب في حرماننا من الخيرات..»
كانت بدلته تبدو من خلف الشاشة حريراً، وكرشه كان ضخماً متدليًا فوق فخذيه؛ حدستُ لو أنه فرد رجليه لاندلق بطنه أرضًا!
أنتقلُ إلى محطة جديدة، أجد راقصة شبه عارية، وجوارها شاب ذكرتني هيئته بمهرجين السيرك يغني، والراقصة تهز لحومها وشحومها المتدلية من كل اتجاه فرحة بنفسها.
وبما أني أَعْذَب، لأني مازلتُ صغيراً لم أجتز الأربعين عامًا بعد، وما أزل في الخامسة والثلاثين، فانتقلتُ لمحطة غيرها، ثم غيرها.
يلفت بصري المحلل السياسي الأصلع، في محطة جديدة، ولكن في برنامج يستضيفه وعائلته. أعرف البرنامج؛ كان يستضيف شخصيات شهيرة، ليناقش إنجازاتها سواء في الحياة العملية أو السياسية أو الأسرية، وكان التصوير يتم في منازل الضيوف.
كانوا يصورون على شفا حمّام السباحة الكبير، الزرقاء مياهه، ومن حوله شجيرات الورد والزينة متخذة أشكال عدة. وكان المحلل السياسي الأصلع، يجلس على أريكة مُذهبة، في حُلة مخملية، ومن حوله ست أولاد؛ كانوا أبنائه، وكانوا يتدرّجون في أعمارهم مابين عشرين سنة وخمسة سنين.
كانت تبدو عليه السعادة الغامرة، حتى أن أسنانه كان لها حضور جيد طوال الحلقة. قال للمذيعة الرقيقة، ذات الشعر الكستنائي والصوت الرقيق المثير جنسيًا:
- حضرتك معزومة على عُرس إبننا؟
- متى سيادتك؟
- قريبًا إن شاء الله ستصلك الدعوة بالميعاد.
ضحكتْ المذيعة سائلة -بوديّة- العريس الذي بدا وقورًا خجلًا، ممتليء الجسم، منتفخ الخدود، منكوش الشعر، غائرة عيناه خلف لحم وجهه المكتنز:
- كم عمرك؟
ضحك بخجل:
- عشرون.
شهقت المذيعة محتجّة:
- لماذا تأخرت في الزواج هكذا؟
قلبتُ المحطة سريعًا، فلو انتظرت ثانية واحدة لبكيتُ حزناً على هذا الإبن المسكين! وبعد جولة ليست بطويلة، وجدتُ نفس المذيعة ذات الشعر الكستنائي، والصوت الرقيق المثير جنسيًا، في برنامج ثرثرة تصرخ بأعلى صوتها، ولأول مرة لا يستثيرني صوتها، فقد بدا هذه المرة أشبه بصوت شريكي بالشقة، بل إن صوته أجمل بكثير، كانت تصرخ في المشاهدين مباشرة: «كيف انتَحرَتْ لأنها اجتازت الأربعين عاماً ولم تتزوّج؟ هي لا زالتْ صغيرة! ماهذه السذاجة التي أصابت شبابنا؟! هل تعتقدون أن الزواج: فستان أبيض، وبدلة سوداء؟...»
طوال عمري كنتُ اعتقد أن الزواج: فستان أبيض وبدلة سوداء. ولكني شكرتُ هذه المذيعة ذات الشعر الكستنائي، على توعيتي بأنني كنتُ موهومًا، وتنوير بصيرتي عندما أكملت قائلة: «الزواج أكبر فخ يمكن أن يقع فيه الشباب هذه الأيام؛ فقد أصبح كله مشاكل وشجار وتعاسة تنتهي دومًا بالطلاق!»
سمعتُ تكتكات معالجة شريكي "لكالون" باب الشقة، أغلقتُ التلفاز، ولمحتُ صُّرْصُوراً ضخمًا ينظر لنا من عقب باب الحمام، وعندما رآه شريكي -بعدما دخل- ضحك موجهًا كلامه للصُّرْصُور:
- عد حيث كنت لن أستحم الآن؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق